طور ألفرد تايلور نظرياته لتحسين العمل الصناعي، عن طريق دراساته عن الإدارة العلمية، حيث قسم العمل إلى أجزاء صغيرة جداً وروتينية تؤدى بطريقة محددة وتعطي نتائج ثابتة. مهدت هذه الدراسات لتطوير هنري فورد خط الإنتاج وتطبيق العديد من أفكار تايلور بنجاح مما منحها مصداقية وأهمية كبيرة. إلا أن فورد اختلف بشكل جوهري مع الفكر السائد في ذلك الوقت، ومنح عماله رواتب أعلى من سعر السوق للمحافظة على معنوياتهم وتحفيزهم على الإنتاجية. حيث ان العمل الروتيني الذي لا يمنح الناس مجالاً لتطوير قدراتهم لا ينسجم مع الطبيعة البشرية، وهو ما لم يدركه تايلور وغيره من أصحاب النظريات «الميكانيكية». وبعكس تايلور نجد مع انتشار كتب ودورات تطوير الذات، شيوع نظريات ومقولات عديدة تفرق بين المدير والقائد، وتمنح الأول صفات سلبية بينما تمنح الثاني صفات إيجابية تكاد تكون أسطورية! بينما عند تمحيص الواقع بشكل علمي كما فعل جفري فيفر (Jeffrey Pfeffer) الأستاذ في جامعة ستانفورد في كتابه «هراء القيادة» (Leadership BS)، لا نكاد نجد لهم أثراً، بل نجد معظم القادة الناجحين بشراً مثل غيرهم يعانون من النقص! مع تطور علم الفيزياء بشكل هائل وتدعيمه بمعادلات رياضية على يد علماء مثل نيوتن وأينشتاين وفاينمان وغيرهم، اشتهرت الفيزياء بالنظريات والنماذج التي تصف الظواهر الطبيعية بصورة دقيقة، وأصبح لدى المشتغلين بغيرها من العلوم ما يدعى بالغيرة من الفيزياء (Physics Envy). وقد ساهمت هذه الغيرة في تطوير العلوم الطبيعية، مثل الكيمياء والأحياء وغيرها. وامتدت هذه الغيرة إلى العلوم الاجتماعية، بما فيها علوم الاقتصاد والإدارة. بل تحول علم الاقتصاد من العلوم والدراسات الاجتماعية، حين كان يطلق عليه علم «الاقتصاد السياسي»، إلى علم رياضي مليء بالمعادلات والنماذج الرياضية التي يفترض أنها قوانين تصف الواقع. لكن الحقيقة أن كل هذه النظريات مبنية على تعميم وتبسيط المشاهدات، ووضع معادلات ونماذج تستخدم لتحليل الماضي وللتوقعات المستقبلية. وهذه النماذج قد تبنى على مشاهدات قاصرة أو ناقصة أو تبسيط مخل فتؤدي إلى توقعات بعيدة جداً عن الواقع، ولهذا فإن علينا الحذر من الاستماع إلى أي خبراء يتحدثون عن «حتميات» اقتصادية. لكن هذه النظريات تظل ذات فائدة وأهمية كبيرة، فاستخدامها للتحليل قد يسلط الضوء على جوانب مهمة قد تكون غير بدهية، مع أهمية استعمال عدد من النظريات والنماذج المختلفة، بل والمتناقضة أحياناً، للتأكد من معالجة الموضوع من شتى الجوانب. ويؤيد هذا ما توصل إليه فيليب تيتلوك (Philip Tetlock)، الأستاذ بكلية وارتون في جامعة بنسلفانيا، والذي نشر خلاصة أبحاثه عن التوقعات المستقبلية في كتابه «التوقع الخارق» (Superforcasting). ومن أهم ما وجد هو كون الخبراء الذين يستعملون عدداً أكبر من النظريات والنماذج التحليلية ويطلق عليهم «الثعالب»، يصلون لنتائج أكثر دقة من أقرانهم الذي يعتمدون على نظرية أو نموذج واحد وهم من يطلق عليهم «القنافذ». هناك العديد من الجوانب السلبية لتطبيق نظريات من أحد العلوم في مجال آخر، ومن أشهر الأمثلة على ذلك ما يعرف بالداروينية الاجتماعية والبقاء للأصلح، التي كان لها آثار مدمرة في القرن الميلادي العشرين مثل النازية. ومن الأمثلة الحديثة دخول العديد من علماء الفيزياء وغيرهم في عالم الاقتصاد المالي، وتطويرهم نماذج ومعادلات رياضية أدى الاعتماد عليها إلى أزمات اقتصادية متكررة. وقديماً كان يقال على صيغة الذم «من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب»، ومع ذلك فإن هذه العجائب قد تكون إيجابية كذلك. ولنعد إلى علم الاقتصاد، الذي تضرر كثيراً في وجهة نظري من محاولات تحويله إلى علم رياضي مبني على فرضيات «ميكانيكية» لتصرفات البشر، لكن دخول علماء الاجتماعيات فيه من جديد عن طريق ما يسمى بالاقتصاد السلوكي أدى لتشذيب الكثير من فرضياته ونظرياته. وهذا التداخل بين العلوم هو أحد أهم وسائل تطويرها اليوم، فمع التخصص الدقيق في تشعبات العلوم، فقدنا بشكل كبير العلماء الموسوعيين، ولعل في انتشار الدراسات المشتركة التي تكسر الحواجز بين العلوم تعويضا لهذا النقص. بل حتى النظريات غير المثبتة أو الخاطئة في حقل من حقول المعرفة قد تكون لها تطبيقات إيجابية في غيرها من العلوم. ختاماً، الحقيقة لا يهمها جمال النماذج والنظريات ومدى قناعتنا بصحتها، وينبغي علينا دوماً الاستفادة من الوقائع التي لا توافق توقعاتنا لتطوير المعرفة.