الضجيج الإعلامي الرهيب والصخب الإعلاني الضخم اللذان يَسبقان حلول الشهر الفضيل باتا لعبة للعديد من المحطات الفضائية، لتكتشف بعد كل هذه الإثارة أنك كنت ضحية دراميات فارغة، وأعمال خاوية من الجديد والمفيد، وحديثي بطبيعة الحال ليس من باب التعميم، لكنه بلا أدنى شك ينطبق على عدد كبير من الأعمال التلفزيونية التي تقدمها الفضائيات في شهر رمضان الكريم، حيث تضمن خلاله نِسَبَ مشاهدةٍ عاليةٍ، فيصبح الإعلان أهم من الأعمال، والتسويق أهم من التدقيق، إن كان في محتوى العمل ورسالته الفكرية أو في مستواه الفني. أعلم جيدا أن لكل عمل درامي غايات متعددة، وأبرزها غايتان: أن يقدم للمتلقي متعة التلقي، أو لنقل توفير متعة مشاهدة ترتبط باحتياجه النفسي، بمتابعة ما يدخل إلى نفسه السرور والبهجة، وأما الغاية الثانية فتتمثل في تلقيه رسالة العمل الدرامي الفكرية أو المعرفية، أما مسألة المتعة فوجد من يقلل من شأنها، أو يعتبرها فائضة عن الحاجة، ولكنها في واقع الأمر غاية أساسية ترتبط بما نسميه الفرجة، والتي تتوازى في ضرورتها مع رسالة العمل الفكرية، وهنا تأتي المأساة حين تُنْتَج أعمال درامية بملايين الريالات لا أصابت هذه الغاية ولا تلك، إنما استخدمت طُعما لذلك المتلقي المغلوب على أمره. بالمقارنة بين تلك الأعمال الباذخة إنتاجا وبين أعمال ربما جاءت بسيطة في تكاليف إنتاجها، نعطي مثالا ببرنامج «الصدمة» الذي لا أظنه قد كلّف الجهة المنتجة ربع ما كلفه برنامج «رامز الأخير» لكننا نجد الفرق في متعة المشاهدة وفي قوة الرسالة المقتنصة منه، ففي الوقت الذي يزعجك البرنامج الأول بصريا ويؤذيك نفسيا بما يحمله إلى المتلقي في كل مساء من فجاجة أفكار وفظاعة صور، يمتعك «الصدمة» بصريا ونفسيا رغم ما أشرنا إليه من بساطة إنتاج وسلاسة تنفيذ، والسر في هذا يعود إلى أن فكرة العمل توجهت إلى هدف أسمى، هو الخلق الإنساني الفطري النبيل الذي يتوجب أن نتعامل به في مواقفنا الحياتية المختلفة، وتمركز حول جماليات علاقاتنا الراقية مع بعضنا البعض. ما أقوله يقودني لتأكيد حقيقة مهمة في صناعة الدراما على وجه الخصوص، مفادها أن النجاح لأي عمل درامي لا يُشترط في بلوغه ضخامة الإنتاج وفخامة الشكل والمبالغة في التنفيذ، إنما مقومات أخرى أشد تأثيرا في متلقيه، منها الأساس الذي يقوم عليه وهو البنية الفكرية له، وبشكل مباشر قدرتنا على جعل رسالة ما نقدمه رسالة سامية، عميقة حد سمو الإنسان ورقيه وتحضره، وحينما أقول بقدرة هذا البرنامج البسيط على تحقيق ذلك فلكونه لامس فينا إنسانيتنا النقية بل وعرانا أمام ذواتنا التي حادت كثيرا عن ذلك النقاء، ومن جهة ثانية استطاع الكشف عن قدرة الإنسان عن الدفاع عن هذه الفطرة الجانحة إلى الرأفة والرحمة والعطف والحنان، على عكس ما تقدمه من بشاعة برامج أخرى، تؤذينا نفسيا، وتكرس تلك الصور العنيفة التي نمقتها. وعلى ذلك أتساءل عن الدور المنتظر من تلك المحطات التي تقود المجتمعات بقوة حضورها الإعلامي لكنها تتساهل في هذا الطرح وتجعله مطية لكسب مشاهدين أكثر أو إعلانات تلفزيونية أكبر، متجاهلة قدرة المتلقي الحالي على التمييز، وتوفره على منصات نقد مفتوحة، من خلالها يطرح ما لديه بسرعة فائقة، منها على سبيل المثال «تويتر» و«هاشتاقاته» الفاعلة، ومتجاهلة الرسالة المنوطة والمنتظرة منها تجاه من توجه إليهم منتجها الإعلامي في رمضان وفي غير رمضان.