شرحت بإجمال في المقالة السابقة قول الدكتور محمد عابد الجابري حول مفهوم التسامح، وأمام هذا القول فحصا وتبصرا يمكن تسجيل الملاحظات الآتية: أولا: فضل الدكتور الجابري ربط مفهوم التسامح بالفلسفة ليكون بعيدا عن الأيديولوجيا التي لا يحبذها ولا يستحسن علاقتها بالتسامح، وبهذا الفارق المعرفي والمنهجي بين الفلسفة والأيديولوجيا أراد الجابري أن يميز مطالعته، لكي تعرف بالانتساب إلى الفلسفة وليس بالانتساب إلى الأيديولوجيا. ومن جانب آخر، وجد الجابري أن ربط مفهوم التسامح بالفلسفة أفضل من ربطه بالأيديولوجيا، باعتبار أن مفهوم التسامح هو في طور البعث والإحياء والاستعادة، ومن ثم فهو بحاجة إلى فحص وتدقيق، وهذه هي مهمة الفلسفة باعتبارها البوتقة التي تمتحن فيها المفاهيم، وكونها تمثل المجال الحيوي لإغناء هذه المفاهيم ومنحها القوة. مع ذلك لم يستطع الدكتور الجابري تخطي الأيديولوجيا ولا التخلص منها، فقد ظل يقترب منها، ويرجع لها، ويقف على تخومها، ووجد نفسه أمامها مضطرا ومختارا في الاحتكاك بها، والتواصل معها، حصل هذا الحال معه في جميع المحاور الثلاثة المذكورة التي أراد منها التأطير الفلسفي لمطالعته. ففي المحور الأول، اقترب الجابري خطوة من الأيديولوجيا حين اعتبر أن تحول الفلسفة إلى الأيديولوجيا في فترات معينة من التطور البشري يعد شيئا طبيعيا، ولا يشكل بالضرورة خيانة الفلسفة لنفسها، ليسوغ لنفسه العودة إلى الأيديولوجيا التي حاول الابتعاد عنها. وفي المحور الثاني، اقتراب الجابري خطوة أخرى من الأيديولوجيا حين توصل إلى أن التسامح ليس مفهوما أصيلا في الفلسفة بل هو يقع بين الفلسفة والأيديولوجيا، وأن هذه الكلمة لم تدخل الفلسفة من باب الفلسفة نفسها، وإنما من باب الفكر الذي يعبر عن الصراع الاجتماعي أي من باب الأيديولوجيا. وحصل الحال كذلك في المحور الثالث، الذي حاول فيه الجابري البحث عن كيفية توظيف مفهوم التسامح في مواجهة ما سماه اللاتسامح المتفشي بشدة في عصرنا، وهنا اقترب الجابري كذلك من الأيديولوجيا، باعتبار أن البحث التوظيفي هو من صلب اهتمام الأيديولوجيا. وحاصل الكلام أن قراءة الدكتور الجابري لمفهوم التسامح إنما تقع بين الفلسفة والأيديولوجيا، وليس في نطاق الفلسفة وبعيدا عن الأيديولوجيا كما كان يرغب. والأيديولوجيا التي أراد الجابري الهروب منها، والابتعاد عنها، وجد نفسه محتكا بها، وعالقا فيها، والسبب في ذلك أنه وجد أن المعالجات المطروحة حول هذا المفهوم والمناظرات والمحاججات تكاد تتأطر في المجال الأيديولوجي وليس في المجال الفلسفي، مع أنها جاءت من فلاسفة أمثال الإنجليزي جون لوك، والفرنسي فولتير إلى جانب آخرين. ثانيا: ناقش الدكتور الجابري مفهوم التسامح بالعودة إلى مقولات الغربيين التي ترجع إلى أزمنة سابقة، حددها الجابري ما بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي تردد صداها بشكل قوي في أشهر معجم فلسفي، هو معجم لالاند الفلسفي الذي طرح فيه مفهوم التسامح بمناقشة مستيفضة رجع لها الجابري، واستند إليها في قراءته وتحليلاته، وفي استشهاداته واقتباساته. هذه المقولات بقصد أو من دون قصد، قد حددت للجابري وجهة البحث في مناقشة مفهوم التسامح، علما fأن هذه المقولات جاءت متأثرة بالوضعيات الدينية والاجتماعية والسياسية التي مرت بها المجتمعات الأوروبية في القرون الثلاثة الأخيرة، وشهدت فيها حروبا وصراعات حادة ودامية بين المذاهب والجماعات الدينية هناك، وهذا ما يعرفه جيدا الجابري نفسه. وفي الوقت الذي حضرت فيه مقولات الغربيين ومناقشاتهم وجدلياتهم، غابت عن قراءة الجابري مقولات العرب والمسلمين ونعني بها المقولات التي جاءت خصيصا لمناقشة مفهوم التسامح تأسيسا وتقعيدا تارة، مقارنة ومقاربة تارة ثانية، سجالا وحجاجا تارة ثالثة. الغياب الذي ترك فراغا واضحا في قراءة الجابري ومطالعته، وأحدث نقصا فيها، وأثر على بنيتها وتكويناتها، وأخل بتوازنها، وجعلها تتسم بأحادية الوجهة والمسار. ومن يرجع إلى المجال العربي يجد بعض المناقشات المهمة التي دارت حول مفهوم التسامح، وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى ثلاث مناقشات تنسب إلى أشخاص لهم وزنهم الفكري والإصلاحي، وهم مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده الذي كانت له مناظرة شهيرة مع فرح أنطون سنة 1902م، وقدم فيها طرحا تأسيسيا مهما لمفهوم التسامح. والثاني شيخ الزيتونة وعلامتها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي ناقش مفهوم التسامح في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) الصادر سنة 1964م، وقدم فيه طرحا مهما في تقعيد مفهوم التسامح في الإسلام. والثالث العالم الأزهري الشيخ محمد الغزالي الذي ناقش المفهوم في كتابه (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) الصادر سنة 1953م، وقدم فيه طرحا سجاليا مقارنا حول مفهوم التسامح. فكان من الضروري العودة إلى مقولات هؤلاء الأشخاص ومناقشاتهم لمعرفة طريقتهم في النظر لمفهوم التسامح، بغض النظر عن جانب الأهمية لهذه المناقشات وطبيعة التقويم لها، فلا شك أن هناك قدرا كبيرا من المغايرة في طريقة النظر لمفهوم التسامح بين المجالين الأوروبي والإسلامي، هذه المغايرة كان من المفيد الوقوف عليها، وتكوين المعرفة بها، لتوسعة أفق البحث من جهة، وتوازن المناقشة من جهة أخرى. ولا أدري لماذا لم يتنبه الجابري لهذا النمط من المناقشات التي تنسب إلى المجال العربي والإسلامي، ولعله لم يكن على دراية بها، أو أنه تغافل عنها عمدا لأنه أراد وجهة فلسفية للبحث والنظر، أو أنه لم يلتفت إليها وسقطت سهوا، أو لسبب آخر لا نعلمه، مع كل هذه الحالات تبقى هذه ملاحظة مؤثرة من جهتي المنهج والمعرفة.