الهندسة الإنشائية للمساجد جزء من التهيئة السليمة للعبادة وأداء الفرائض والنوافل والذكر بطمأنينة وخشوع بعيدا عن مصادر التشويش، لذلك انتهى المعماريون إلى قواعد وضوابط من أجل بنائها على النسق الهندسي المثالي الذي يضع عددا من الاعتبارات التي تتعلق بتحقيق رسالة المسجد في الموقع الذي يتم بناؤه فيه. وقد تحددت المعايير والاعتبارات التي يتم وفقا لها تخطيط المسجد وعمارته بما يسمح بالتعبد دون إفراط أو تفريط، وفي بعض منها نفسي لتحقق الخشوع خلال الذكر، وعدم إشغال النفس بغير ذكر الله في هذا المقام بكل طهره ونظافته في أي موقع منه. أهمية عمارة المسجد يقول الدكتور فهد النمري «أكاديمي بجامعة الدمام»: إنه لابد من اختيار الموقع المناسب لبناء المسجد، ولذلك من البدهي أنه لتنفيذ أي مشروع يجب أولا اختيار الموقع المناسب لإنشائه وذلك وفق معايير وأسباب وضوابط تتعلق بطبيعة المشروع ووظيفته والظروف التي ترافق إنشاءه، وهذا الأمر يعتبر من بدهيات وأبجديات العمل المعمارى، أما المسجد فالأمر فيه أوكد لأن المساجد بيوت الله وفيها يتعلم المسلمون العلم والإيمان ويتربون على الفضائل والأخلاق، ولهذا جاءت النصوص الشرعية تحث على بناء المساجد وعمارتها، قال تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) وعمارة المساجد تشمل العمارة الحسية ببنائها وتنظيفها وإصلاحها، وأحب أن أنبه هنا إلى الحذر من المبالغة في تزيين المساجد وزخرفتها، فقد جاء النهي عن ذلك، ففي صحيح البخاري أن عمر لما أمر ببناء المسجد قال: (أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) قال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إ لا قليلا، وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى، وتشمل أيضا العمارة المعنوية بالصلاة فيها والاعتكاف وغير ذلك». ويضيف النمري: «إن النبي «صلى الله عليه وسلم» قال: (من بنى لله بيتا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين مكانة ومنزلة عمارة المساجد». ترابط أجزاء المسجد ويرى الدكتور محمد عبدالقادر «الرئيس التنفيذي لجمعية وئام»، أن لهندسة المسجد المعمارية أثرا لا يقل أهمية، ومن ذلك سهولة رؤية المصلي للإمام وهو يخطب، وترابط أجزاء المسجد وبعده عن التجمل الزائد الذي لا يساهم في خشوع المصلي، وكذلك موقع المواضئ وهندستها المناسبة للوضوء الشرعي، والنظافة واتجاهه من الرياح التي تسهم في جودة التهوية وغير ذلك، هذه أمور لها أثر في صلاة المسلم، لذا ندعو الأئمة إلى تفعيل دور مساجدهم ورجال الأعمال إلى مراعاة المصالح العظيمة في بناء المساجد. ويضيف عبد القادر: إن للمسجد دورا رياديا في نشر القيم وتعزيزها من خلال مكوناته كلها، الخطبة وقراءة الإمام للقرآن وكلماته التي يقدمها ودوره الاجتماعي في التعارف والتآلف والتراحم والتواصل الراقي في أبهى حلة وأجمل صورة وقوة الرابطة المنبثقة من الدين التي ينميها المسجد وغير ذلك كثير فهذا جزء من دور المسجد. مخالفات شرعية فضيلة الشيخ ناصر المزيني، يؤكد أن هندسة المساجد بالشيء الذي لا يبالغ فيه تعين على انسجام المصلين والراحة عند أداء العبادة، لكن المبالغة في الزخرفة تنقل المصلي من روح العبادة ولذتها إلى عالم آخر، كما أن زخرفة المساجد مخالفة شرعية وهي من علامات الساعة، فقد روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد». وقال البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة، باب بنيان المساجد: ( قال أنس: يتباهون، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً) فالتباهي بها: العناية بزخرفتها. قال ابن عباس: لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنصارى)، وقد جاء وعيد شديد على هذه الزخرفة، وهو فيما رواه الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «إذا زوقتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم». قال الألباني في صحيح الجامع: إسناده حسن. وعن أثر الهندسة المعمارية في تعزيز السلوك الإيجابي أثناء استعمال دورات المياه، ووضع الأحذية وغيرها، يقول المزيني: أعتقد أنه بإمكان المهندس المعماري عند القيام برسم خارطة للمسجد أن يحكم وضع دورات المياه في مكان يكون داخل سور المسجد ويكون الدخول إليه من داخل المسجد للحد من عبث العابثين وأيضا يسهل إغلاقه بعد الانتهاء من الصلاة. ويبين أن أبرز الأخطاء الموجودة في تصميم المساجد سابقا، كثرة النوافذ لاسيما باتجاه القبلة وكذلك عدم العناية بمواقع الأبواب لاسيما في الجوامع. البعد التجريبي يقول الشيخ عبدالعزيز الحجيلان «مؤذن مسجد»: لا شك في أن الهندسة المعمارية مهمة للغاية في مساعدة المصلين على التحلي بالقيم الإسلامية خلال تواجدهم في المسجد أو بأحد مرافقه، مبينا أن المصلّي عندما يركن سيارته ثم يجد دورات المياه في أقرب نقطة جهة المواقف فإنه سيدخل في الوقت المناسب دون عناء، كما أن توافر النظافة داخل دورات المياه أمر مهم ويجب هنا التأكيد على أهمية توافر عامل ملازم لعمليات النظافة، إضافة إلى أهمية عزل المواضئ عن دورات المياه. ويشير الحجيلان إلى أن بعض المساجد لا يوجد بها مكان مخصص للأحذية، الأمر الذي يساهم في بعثرة الأحذية بمنظر لا يليق بأخلاقيات المسلم، ونحن هنا يجب ألا نلقي باللوم الكامل على الجهات المنظمة والتصاميم، فأحيانا تكون الخدمات متوافرة إلا أن الناس بحاجة لتوعية مستمرة من قبل إمام المسجد، مضيفا: إنه لم ير أي محاضرة تخص جوانب التوعية بأهمية الاستخدام الأمثل وتعزيز قيم وأخلاقيات المسلم، ويجب علينا إبراز البعد التجريبي الفعال لعمارة المساجد وعمران البيئة المحيطة بها، على أن يشكّل المسجد الملاذ المطلوب والمحفّز على العبادة، والخروج من صخب حياة المدينة الحديثة إلى هدوء وروحانية المحتوى الداخلي للمسجد، في الوقت الذي يعكس الدور الحقيقي للمسجد من تنوع وتكامل في وظيفته، والامتداد إلى أن يكون أبعد من مكان للعبادة والوصول إلى كونه مركزاً ذا أبعاد ثقافية وعلمية. ذوو الاحتياجات المهندس عثمان الملحم، يرى أنه يجب التركيز على الهندسة المعمارية للمسجد وصولا للمساجد الذكية التي تعنى بتوفير الطاقة والماء من خلال وضع حلول وأطر متكاملة لخفض استهلاك الكهرباء والماء، منها على سبيل المثال، استخدام مجسات لإشعال مصابيح الضوء وتصميم المساجد لاستغلال الضوء الخارجي على أكمل وجه، ويشمل هذا تصميم التكييف على أكمل وجه وتوزيع فتحات التكييف للحد من تسرب الهواء البارد خارج مبنى المسجد، كما تتم الاستفادة القصوى من الماء وتركيب مجسات لفتح الماء والحد دون الإسراف من استهلاك الماء غير المبرر، كما أنه تتم إعادة تدوير ماء الوضوء واستعمالها في خزانات تصريف كراسي دورات الماء. وحول أبرز الاعتبارات عند تصميم المسجد، يقول: لابد أن يكون المسجد ملائما لذوي الاحتياجات الخاصة، وأن يكون صديقا للبيئة، وأن يكون ضمن ما يسمى المساجد الذكية التي يراعى فيها توفير الطاقة، مبينا أن الجهود الحالية تنطلق لتفعيل مبادرات خفض التكاليف سواء أثناء فترة البناء أو بعد التشغيل، وهذا يشمل الاستفادة القصوى من الإضاءة الخارجية واختيار العوازل الضرورية لخفض معدل تشغيل وحدات التكييف وتوزيع فتحات التكييف للحد من فقد الهواء البارد، هذا ما يسمى الهندسة القيمية «value engineering» التي تتم مراجعتها أثناء مرحلة التصميم. ويضيف الملحم: يمكن للهندسة المعمارية أن تساهم في تعزيز السلوك الإيجابي من خلال مراجعة التصاميم قبل الشروع في مرحلة البناء لرفع مستوى الوعي لرواد المسجد والحد من سوء الاستعمال لمرافق المسجد، مشيرا إلى أن أبرز الأخطاء الموجودة في تصميم المساجد سابقا هي عدم الاهتمام بخفض التكاليف أثناء مرحلة التصميم، والمبالغة في الإضاءة والتكييف، وإهمال اختيار المواد لملحقات المسجد مثل دورات المياه والصوتيات، وإهمال العوازل المائية والحرارية. معايير قديمة ويشير المهندس حامد بن حمري، إلى أنه لكي نبدأ من مكان تصميم المسجد فكثير من المساجد لدينا لا تأخذ حقها من حيث التصميم المعماري الجيد سواء كان من ناحية جمالية أو تقنية، مبينا أن البعض يبالغ في القبب والساحات الخارجية دون مراعاة إلى أن الحي لا يحتمل وجود تلك المساحات وهذا يعد خللا. ويوضح ابن حمري أن المسجد تنقسم خدماته إلى قسمين كهرباء وماء، والكهرباء تشمل إنارة وتكييفا، مؤكدا أنه يجب أن يقسم المسجد إلى عدة اقسام وفق الطاقة الاستيعابية للمصلين، وعدد المصلين يوم الجمعة يختلف عن بقية الأيام، مضيفا: إن الهدف من التقسيم بفواصل هو للحد من هدر الطاقة الكهربائية ومولدات التبريد. ويستطرد: الماء المستخدم ينقسم أيضاً لقسمين المواضئ والحمامات، فيما مياه الحمامات تنقسم إلى قسمين: مياه سوداء ومياه رمادية، ويمكن أن يعاد استخدام المياه الرمادية من خلال عمليات التكرير، ويمكن لمياه المواضئ أن تستخدم من خلال عمليات التكرير. وحول أبرز الأساليب والطرق المثلى للحد من هدر الطاقة الكهربائية، يقول: توجد عدة طرق لتوفير الطاقة الكهربائية وبالتالي توفير مبالغ يمكن أن تصرف بدون مبرر إذا ما طبقت هذه الطرق بكل دقة، فعلى سبيل المثال لا الحصر يتم استعراض بعض هذه الطرق وهي كما يلي: * استخدام بعض الوسائل والتقنيات: باستخدام بعض التقنيات والوسائل يمكن تخفيض أحمال الذروة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن هذه الوسائل تشجيع كبار المستهلكين على استخدام نظام التخزين التبريدي واستخدام نظام العزل الحراري وتطبيق تحسين معامل القدرة. نظام التخزين التبريدي: يعتبر نظام التخزين التبريدي من أنسب الحلول للمنشآت الكبيرة التي يتوافق حملها الذروي (والذي يكون أكثره أحمال تكييف) مع أحمال شركة الكهرباء. إلزام المشتركين باستخدام العزل الحراري في المباني: تكمن أهمية استخدام العزل الحراري في طبيعة الحمل الذروي والذي يتمثل في التكييف معظم أوقات هذا الحمل، حيث إنه باستخدام العزل تقل البرودة المتسربة من المبنى وبالتالي يقل تشغيل أجهزة التكييف واستهلاك الطاقة الكهربائية. وحول التصاميم الحالية للمساجد، يشير إلى أنه يتم استخدام معايير قديمة لا تتوافق مع الخدمات المطلوب تقديمها فنجد دورات المياه ضمن المكان المخصص للمواضئ رديئة التهوية ومداخل النساء يوجد بها افتقار للخبرة والحنكة في التصميم وغياب المعايير الهندسية من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي تتوافق مع الحاجة الفعلية لمرتادي المسجد من المصلين، مشيراً إلى أهمية المعايير في أعمال الصيانة والتشغيل للمساجد. الاعتبارات التصميمية للمساجد * يعتبر المسقط المستطيل من أفضل المساقط على وجه العموم، وهو الغالب على أكثر المساجد المبنية. * يتم توجيه بيت الصلاة نحو القبلة «المسجد الحرام بمكة»، أما باقي عناصره فيتم توجيهها حسب الغرض منها. * يحتاج المصلي إلى مساحة صافية 1م2، على أساس أن المساحة اللازمة في حدود 0.8×1.2م تقريبا، وتختلف المساحة الكلية للمسجد حسب نوع الخدمة التي يقدمها. * تختلف مساحة الخدمات حسب نوع المسجد، فالمسجد المحلي يحتاج المصلي فيه إلى مساحة خدمات بمقدار 1.2م2، أما المسجد الجامع يحتاج فيه المصلي إلى مساحة خدمات بمقدار 1.3-1.4م2. * يراعى في تصميم المنبر صغر الحجم، حتى لا يشغل حيزا كبيرا، ولا يؤدي إلى قطع الصفوف الأولى للمصلين. * يراعى الحفاظ على طهارة المسجد في تصميم المواضئ ودورات المياه وتحديد مواقعها، ويتم حساب عدد 1 مرحاض و2 صنبور لكل 40 مصليا. * توفير عدد المداخل والأبواب المناسبة لمساحة المسجد، وأن تختار أماكنها حيث يتيسر الدخول والخروج، ودون أن تؤدي إلى تخطي رقاب المصلين، وكذلك عزل مدخل النساء تماما عن مدخل الرجال. * يفضل استخدام أسلوب إنشائي يسمح بتغطية فراغ بيت الصلاة دون استخدام ركائز داخلية أو بأقل عدد منها. * يراعى عموما البساطة وتحقيق معنى الصفاء والهدوء والتجرد في التشكيل الداخلي للفراغات وكذا التشكيل الخارجي للمسجد. * دراسة الصوتيات في المسجد، والتعمق في تحليل اتجاهاتها وقوتها، حتى يشعر المصلي في أي ركن في المسجد بالراحة التامة من الضوضاء، والسماع الكامل الواضح لعظات وصلوات الإمام. * يجب أن يكون المسجد مضاء في جميع أركانه بضوء يسمح لقارئ القرآن الجالس على الأرض بالرؤية الواضحة لما يقرأ. * استخدام الزخارف داخل المسجد، ويجب عند استخدامها مراعاة المواد الأولي لها مثل الرخام والخزف المتميز بقوة السطح والعمر الافتراضي الطويل مقارنة بالمواد الأخرى. الأشكال المعمارية للمساجد رغم التاريخ الطويل للمساجد وتعدد أشكالها إلا أنها لم تخرج في تكوينها العام عن هيكل مسجد رسول الله «صلي الله عليه وسلم» في المدينةالمنورة، فالمعماريون المسلمون، وإن تفننوا في ابتداع أشكال المساجد وصحونها ومحاريبها ومنابرها وأروقتها، لم يضيفوا عنصرا رئيسيا واحدا إلى عمارة المساجد الحديثة. ويمكن تقسيم الأشكال المعمارية للمساجد تبعا لقدمها التاريخي إلى سبعة أشكال: * الشكل الأول: المغربي. - الشكل الثاني: الأندلسي. - الشكل الثالث: المصري. - الشكل الرابع: السلجوقي. - الشكل الخامس: الهندي. - الشكل السادس: الصفوي. - الشكل السابع: العثماني.