بدأ عدد من المفكرين الأمريكيين مع مطلع الألفية الثالثة إلقاء نظرة ورؤية فاحصة على ما سمّوه «قرن الهيمنة الامريكية» التي يقولون إنها تشهد نهاياتها. كما قدّموا مراجعات لسياسة الولاياتالمتحدة بعد 11 سبتمبر ونظروا في مخاطر تغول القوة عندما تَفْجُر على الديمقراطية وحقوق الإنسان. ضمن هذه المجموعة يقدم نعوم شيمونسكي استاذ الفلسفة واللغويات بجامعة مساشوتز تحليلا للوضع العالمي الماثل اليوم في أحدث كتبه «مَن يحكم العالم» الذي صدر هذا الشهر وفيه ينبه المؤلف بلاده الولاياتالمتحدة إلى انها تخاطر من خلال سياساتها العسكرية وإصرارها على أن تصبح امبراطورية تدير العالم بتكبيد العالم كوارث مدمرة، مقدمًا أمثلة واقعية مما سماه برنامج الاغتيالات والاعدامات الممنهج بواسطة الطائرات بدون طيار إلى التهديد بحرب نووية ثم غزو افغانستان والعراق واطلاق يد إيران فيه والصراع الإسرائيلي الفلسطيني. يسلط شيمونسكي الضوء على الدمار الذي تحدثه القوى الامبريالية المهيمنة على عالمنا اليوم متخذًا بلاده الولاياتالمتحدة نموذجًا. ويلوم مفكريها الذين يقول إنهم أصبحوا عاجزين عن فرض أي كوابح ديمقراطية على سلوكها العسكري السياسي. فالشعب الامريكي في رأيه ركن إلى حالة من عدم المبالاة وتم شغله بالحياة الاستهلاكية أو الكراهية.. إن يد الشركات والأغنياء اُطْلِقت ليفعلوا ما يشاؤون. يرى نعوم شيمونسكي ان أمريكا لم تعُد تقدم إجابة واضحة عن سؤال مَن يحكم العالم، فهي في رأيه فقدت سيطرتها وضعفت قبضتها على مفاصل القوة ولم يعد يستمع لها أو يهابها أحد. فالعالم عنده في حالة توهان.. الحكومات لم تعُد السلطة الحاكمة. وأن قوى منفلتة أصبحت ممسكة بزمام العالم وتقوده لتحقيق مصالحها غير آبهة بما يحدث للآخرين. يقول شيمونسكي: عندما نسأل مَن الذي يحكم العالم؟ نسارع إلى الاجابة التقليدية التي تعتبر الدول اللاعب الحقيقي في الشؤون الدولية وبصفة خاصة القوى العظمى ثم ننصرف للنظر في قراراتها ونأخذ بعين الاعتبار العلاقات البينية بينها. مثل هذا الاعتقاد في مجمله ليس خاطئا، ولكن علينا ان نحتفظ لأنفسنا بالشك في أن هذا المستوى من التجريد يمكن أن يكون مضللا ويقودنا بعيدا عن الاجابة الصحيحة. لا شك في أن الدول لديها تراكيب داخلية معقدة وان خيارات وقرارات القيادة السياسية تتأثر بشكل واسع بتركيز السلطة داخليا في أيد قابضة، أما عامة الشعب فغالبًا ما يكونون في حالة تهميش. وهذا القول صحيح حتى في المجتمعات الأكثر ديمقراطية وهو كذلك بالنسبة لغيرها. وعلى أية حال لا يمكننا ان نحصل على فهم منطقي لسؤال من يحكم العالم؟ إذا تجاهلنا اولئك الذين يسميهم آدم اسميث «اسياد البشرية» masters of mankind. هؤلاء كانوا في زمانه التجار والصناعيين في انجلترا أما في زماننا هذا فهم الشركات متعددة الجنسيات ومؤسسات التمويل الضخمة وامبراطوريات البيع بالتجزئة وما شاكلها. ولنبق مع ادم اسميث في القول المأثور«vile maxim مكسيم اللئيم اي» سادة البشرية الذين يرون ان «كل شيء لنا وحدنا ولا شيء يذهب لغيرنا» All for ourselves and nothing for other people وهو مذهب تعريفه الآخر «حرب طبقات مريرة ومستمرة وغالبا ما تكون ضارة بمواطني البلد الواحد وبالعالم و لمصلحة طبقة واحدة». في النظام العالمي الحالي تحتكر مؤسسات وشركات هؤلاء السادة سلطات واسعة ليس على نطاق العالم الخارجي فقط بل ايضا داخل بلدانها، وبواسطة تلك المؤسسات يعززون حماية سيطرتهم ومن خلالها يقدمون الدعم الاقتصادي لخدمة مصالحهم مستخدمين وسائل متنوعة ومتعددة. عندما ننظر لدور سادة البشرية هؤلاء نلتفت إلى بعض اوليات سياسة الدولة الأمريكية في الوقت الحالي كالشراكات التي تقيمها عبر الأطلسي في شكل اتفاقيات لضمان حقوق المستثمرين، لكنها اعطيت تسمية مضللة ويطلق عليها «اتفاقيات التجارة الحرة» في وسائل الدعاية والإعلان. تلك الاتفاقيات تمت مناقشتها في جلسات سرية حيث يتولى مئات المحامين العاملين لصالح تلك الشركات ومجموعات الضغط كتابة أخطر التفاصيل. فالمقصود هنا أن تبدو مقبولة وتتم الموافقة عليها بالطريقة الستالينية.. اجراءات «الخط السريع» التي تصمم لقفل الباب أمام النقاش وفتحه فقط باتجاه خيار واحد.. الاجابة بنعم أو لا، اذ تصبح نعم ملزمة. الذين يصممون هذه الاتفاقيات يعتبرون دائما انهم يحسنون صنعا ويحصلون على الثناء والاشادة من رؤسائهم اصحاب المصلحة، أما رأي الناس وموافقتهم أو عدمها وتقبلهم لما يترتب على ذلك من نتائج فلا تُعطَى أي أهمية. سلبيات الليبرالية الجديدة وترنح الاتحاد الأوروبي برامج الليبرالية الجديدة التي وضعها الجيل السابق في الولاياتالمتحدة ركزت الثروة والسلطة في ايد قليلة فيما اجهضت الديمقراطية التي كانت سائدة وأدت في نفس الوقت لإثارة المعارضة وبعثها ضد تلك السلطات. وأفضل مثال على ذلك ما يحدث في امريكا اللاتينية وكذلك في اوساط القوى العالمية. الاتحاد الاوروبي الذي كان أحد أكثر التطورات الواعدة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الاولى يترنح حاليا بسبب التأثيرات المؤلمة لسياسات شد البطون خلال فترة الركود. والتي تعرضت للانتقاد والرفض حتى من قبل اقتصاديي صندوق النقد الدولي «ان لم يكن من الفاعلين السياسيين فيه». ففي اوروبا اُجْهضت الديمقراطية بانتقال صناعة القرار الى بيروقراطية بروكسل، حيث تمد المصارف الشمالية ظلالها فوق تلك الاجراءات. احزاب التيار الرئيس في أوروبا صارت تخسر أعضاءها بسرعة فائقة لصالح اليسار واليمين المتطرفين. فقد ارجع المدير التنفيذي لمجموعة يورونوفا البحثية ومقرها باريس أسباب عدم الرضا وتحرك الاوروبيين للتخلص من الوهم والوعود الكاذبة الى «حالة من الغضب المحبط حيث تنتقل القوى الفعلية التي تشكل الاحداث من القادة السياسيين الوطنيين - الذين يخضعون على الاقل لضوابط السياسات الديمقراطية - الى السوق ومؤسسات الاتحاد الاوروبي والى الشركات» فهي متوافقة مع المذهب الليبرالي الجديد. هناك عمليات تغيير مماثلة لما يحدث في اوروبا تتشكل في الولاياتالمتحدة والى حد ما نتيجة لنفس الاسباب، وهي موضوع بالغ الاهمية ومثير للاهتمام ليس بالنسبة للبلد (امريكا) وحدها ولكن بسبب قوة الولاياتالمتحدة للعالم كله. ازدراء الجماهير وتحييدها لتلعب دور المتفرج المعارضة المتصاعدة لعدوان الليبراليين الجدد يسلط الضوء على مفهوم هام للاتفاقيات القياسية فهي تضع الجمهور جانبًا. وهذا المفهوم غالبًا ما يفشل في اقناع الجماهير بتقبل دور المتفرجين التقليدي «اكثر من دور المشاركين» الذي صمم لهم في النظرية الليبرالية الديمقراطية. هذا النوع من الخروج على الطاعة ظل دائما محل قلق وازعاج للطبقات المسيطرة. فاذا رجعنا للتاريخ الامريكي فان جورج واشنطن كان يزدري اولئك الناس العاديين الذين شكلوا الميليشيات التي قاتلت من اجل امريكا وكان عليه قيادتها لخوض الحرب ويراهم «على درجة بالغة من السوء ويتمتعون بنوع مفرط من الغباء وادنى درجة اجتماعية». في كتابه سياسة العنف Violent Politics الذي عالج فيه حركات التمرد من الثورة الامريكية الى افغانستان المعاصرة والعراق، انتهى وليم بولك الى ان الجنرال واشنطن «تملكه القلق والخوف ان يخسر الثورة بسبب تهميشه أولئك المقاتلين الذين كان يحتقرهم» بل كان على وشك خسرانها لو لم تتدخل فرنسا بشكل كاسح وتنقذ الثورة التى حتى تلك اللحظة كان النصر فيها حليف رجال العصابات الذين نسميهم اليوم إرهابيين فيما كان جيش واشنطن القائم على النمط البريطاني يتكبد الخسائر والهزيمة المرة تلو الأخرى وقد خسر الحرب تقريبا. معارضة غزو العراق ونظرية القمع كثيرا ما يتواتر الجدل بأن المعارضة الشعبية الواسعة لغزو العراق لم يكن لها تأثير يُذكر. هذا القول بالنسبة لي يبدو غير صحيح. لقد أوضح بولك ان المظهر العام لحالات التمرد الناجحة هي انه بمجرد ان يتراجع ويختفي التأييد الشعبي بعد تحقيق النصر تقوم القيادة بقمع اولئك الناس «القذرين والسيئين» الذين هم في الحقيقة الذين كسبوا الحرب مستخدمين تكتيكات حرب العصابات واثارة الرعب. وذلك خوفا من ان تسول لهم أنفسهم التطاول على امتيازات تلك الطبقة المسيطرة والتطلع لتحديها. ازدراء النخب للطبقة الدنيا التي ينحدر منها عامة الناس اتخذت اشكالا متنوّعة عبر السنين. احد التعابير المتداولة لهذا الازدراء الذي يمارسه الليبراليون دعاة العالمية وهم يردون على التأثيرات الديمقراطية الخطيرة التي كانت ستترتب على الثورات الجماهيرية في ستينات القرن الماضي تلك الدعوة المتكررة للجماهير لتقف على الحياد والتزام الصمت او «الاعتدال في الديمقراطية». في بعض الحالات تختار الدول الانقياد لرأي وموقف الجماهير مسببة الكثير من الغضب والاعتراض في أوساط مراكز القوة. احد الامثلة الدراماتيكية كان في عام 2003 عندما طلبت ادارة الرئيس بوش من تركيا الانضمام الى حملتها لغزو العراق. فعارض خمسة وتسعون بالمائة من الاتراك ذلك التحرك وما أثار دهشة واشنطن وهلعها ان الحكومة التركية اذعنت لوجهة نظر الشعب. ولهذا صبَّت على تركيا جام غضبها ووصفتها بأنها لم تتخذ موقفًا مسؤولًا. باول وولفويتز نائب وزير الدفاع الذي صنفته الصحافة بأنه رئيس هيئة العقلاء في ادارة بوش وبَّخ الجيش التركي لانه سمح في رأيه للحكومة بالتجرؤ على اتخاذ موقف مخالف لأمريكا وطلب من الجيش التركي الاعتذار «عن هذا التقصير». بوش وحماقة نشر الديمقراطية لقد مضى كثيرون من الذين يعلقون على الأحداث دون وجل ودون اعتبار لهذه الانتقادات المتعددة والشروحات التي توضح مدى فجاجة توقنا لنشر الديمقراطية يمجدون ويمتدحون الرئيس جورج وولكر بوش لتكريس جهوده المتصاعدة لنشر الديمقراطية وفي بعض الاحيان ينتقدون حماقته في الاعتقاد بأن قوة خارجية تستطيع فرض رغبتها الجامحة لتحقيق الديمقراطية على الآخرين. لم يكن الشعب التركي وحده فالمعارضة للعدوان الامريكي البريطاني كان يتفاعل على مستوى العالم. ولم يبلغ التأييد لخطط حرب واشنطن ال10 بالمائة في أي مكان من العالم حسب ما جاء في الاستبيانات التي اجريت. قوتان عُظميان في حالة مواجهة معارضة الحرب ورفضها فجرت احتجاجات واسعة على مستوى العالم، بل حتى في الولاياتالمتحدة نفسها وربما تكون تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي يتم التصدي فيها لعدوان امبريالي بهذه القوة حتى قبل أن يتم شن الحرب فعليا. الصحفي باتريك تايلور نقل على الصفحة الأولى من صحيفة نيويورك تايمز «انه ربما تكون هناك قوتان عُظميان ما زالتا على سطح هذا الكوكب هما الولاياتالمتحدة والرأي العام العالمي». لقد كانت المعارضة للحرب في الولاياتالمتحدة تعبيرًا عن رفض العدوان. هذا الرفض الذي بدأ قبل عدة عقود مضت في ادانة الحرب الامريكية في الهند الصينية بلغ مستوى غير مسبوق وبالغ التأثير حتى ولو جاء متأخرا بعد فوات الأوان. بحلول عام 1967 عندما أصبحت الحركة المناهضة للحرب قوة مؤثرة حذر المؤرخ العسكري والمتخصص في شؤون فيتنام بيرنارد فول من ان «فيتنام ككيان ثقافي وتاريخي.. أصبح مهددا بالانقراض. وان الريف الفيتنامي أصبح عمليا في حالة موات تحت ضربات الماكينة العسكرية الضخمة التي لم يحدث أن تركت من قبل تسرح وتمرح في منطقة بهذا الحجم». لقد أصبحت الحركة المناهضة للحرب قوة كما اسلفنا يحسب حسابها ولا يمكن تجاهلها وكان تأثيرها واضحا. عندما تولى رونالد ريجان السلطة وقرر شن الحرب على امريكا الوسطى تتبعت ادارته خطى جون كنيدي التي اتبعها في شنه الحرب على فيتنام قبل عشرين سنة مضت من وصول ريجان للسلطة لكنها سرعان ما اضطرت للتراجع تحت الضغط الشعبي المعارض الذي كان مفقودا ولم يتشكل بعد في بدايات الستينات وشن الحرب على فيتنام. لقد كان الترتيب للعدوان مشينا وضحاياه ما زالوا يحاولون التشافي من آثاره. لكن ما حدث في فيتنام الجنوبية وبعدها في جميع انحاء الهند الصينية بدرجة من السوء لا يمكن تصورها. حتى تمكنت القوة العالمية الثانية من فرض وجودها في المنطقة لتوقف المد الامريكي. مرة اخرى اقول ان الادعاء المتكرر بأن المعارضة الجماهيرية الواسعة لغزو العراق لم يكن لها تأثير يبدو بالنسبة لي غير صحيح، ومرة اخرى اقول إن الغزو كان مثيرا للهلع الشديد وان ما حدث بعده شيء بالغ الخطورة. اقتراب أولي من الواقع هناك الكثير الذي يمكن قوله بشأن العوامل التي توجه سياسة الدولة الامريكية والتي يتم وضعها جانبًا عند تطبيق المعاهدة القياسية التي تقول إن الدول هي اللاعب الوحيد على الساحة الدولية. فدعونا نطبق في ظل وجود مثل هذه المحاذير تلك الاتفاقية القياسية على الأقل كاقتراب اولي من الواقع. ثم يأتي سؤال من يحكم العالم الذي يقود مباشرة إلى اعتبارات اخرى. منها صعود الصين الى مصاف القوى العظمى وتحديها للولايات المتحدة وللنظام العالمي السائد وتصاعد دخان حرب باردة جديدة في اوروبا الشرقية والحرب العالمية ضد الارهاب والهيمنة الامريكية ثم ضعف قبضة امريكا وسلسلة من الاعتبارات المشابهة. التحديات التي تواجهها القوى الغربية منذ بزوغ فجر العام 2016 لخصها جيدوين راشمان - كبير محرري الشؤون الدولية في صحيفة الفاينانشيال تايمز اللندنية - في اطارها التقليدي بشكل جيد. لقد بدأ باستعراض الصورة الغربية للنظام العالمي «فالقوة الكاسحة للجيش الامريكي صارت محور السياسة العالمية منذ نهاية الحرب الباردة. وكان ذلك حاسما في ثلاثة اقاليم هي شرق آسيا حيث اصبح الاسطول الامريكي معتادا على معاملة المحيط الباسفيك على انه بحيرة امريكية، ثم اوروبا حيث الناتو والذي يعني في حقيقته الولاياتالمتحدة التي تتولى ثلاثة ارباع نفقاته العسكرية لحماية وضمان سلامة أراضي دوله الاعضاء، والثالث اقليم الشرق الاوسط حيث القواعد العسكرية البحرية والجوية الضخمة متمترسة لطمأنة الاصدقاء وتخويف المنافسين. مشكلة النظام العالمي اليوم في رأي راشمان «ان تلك النظم الامنية (التي سنها النظام العالمي لفرض هيمنة امريكا) عرضة للتحدي والمعارضة في جميع الاقاليم الثلاثة» ومن ذلك التدخل الروسي في اوكرانيا وسوريا وتحويل الصين لبحارها المجاورة من بحيرة امريكية إلى مياه متنازعة الهيمنة. وهكذا فان السؤال المحوري بالنسبة للعلاقات الدولية هو ما اذا كانت الولاياتالمتحدة ستقبل ان تكون لتلك القوى المنافسة مواقع تأثير في المناطق المجاورة لها كما تفعل هي على مقربة من حدود الاخرين. راشمند يرى ان عليها ان تقبل بذلك لأن أسباب نشر القوة الاقتصادية حول العالم تتطلب بداهة ان يكون مصحوبا بالحس السليم. فهناك طرق للنظر للعالم من وجهات نظر متنوعة ولكن دعونا نواصل تقليب اوراق هذه الاقاليم الثلاثة لأنها هي الأكثر اهمية في ضوء هذا المفهوم. التحديات الماثلة في شرق آسيا مبتدئين بالبحيرة الامريكية فإن بعض الحواجب قد ترتفع عند الاطلاع على فحوى التقرير الذي صدر منتصف ديسمبر 2015 وجاء فيه «ان مدمرة امريكية من طراز بي 52 كانت في مهمة روتينية في بحر الصين الجنوبي وقد ابحرت دون قصد على بعد ميلين بحريين من جزيرة صناعية بنتها الصين فأثار ذلك قضية خلافية ساخنة بين واشنطن وبكين !!». هل كان ذلك فعلا دون قصد؟ الذين على معرفة بسجل سنوات حقبة الاسلحة النووية سيكونون مدركين ان هذا النوع من الاحتكاكات يؤدي في أغلب الاحيان الى الاقتراب من اشعال حرب نووية. ان المرء ليس بحاجة ليؤيد افعال الصين العدوانية والاستفزازية في بحر الصين الجنوبي ليلاحظ ان الحادثة لم يسبقها وجود مدمرة نووية صينية في البحر الكاروبي أو على مقربة من سواحل كاليفورنيا ليتم الرد عليها، اضف الى ذلك ان الصين ليس لديها نوايا لإقامة بحيرة صينية. وهذا من حسن حظ العالم. القادة الصينيون مدركون تماما ان طرق تجارة بلادهم البحرية محاطة بقوى معادية مدعومة بقوة عسكرية امريكية ضاربة من اليابان حتى مضيق ملقا وما بعدها. ولهذا فهي تعمل للتوسع فوق اليابسة غربا بتكثيف استثماراتها في الدول المجاورة والتقدم بتحركات مدروسة. هذه التطورات الصينية تأتي في جزء منها ضمن اطار منظمة شنغهاي للتعاون (اسكو) التي تضم دول وسط آسيا وروسيا وقريبا ستلحق بها الهند وباكستان وايران كمراقبين وهو وضع حرمت منه الولاياتالمتحدة ودعيت لإغلاق جميع قواعدها العسكرية في المنطقة. فالصين تعمل على انشاء نسخة مطوّرة من طرق الحرير القديمة مستهدفة ليس تكامل الاقليم فقط تحت النفوذ الصيني، بل ايضًا الوصول الى اوروبا ومناطق انتاج النفط في الشرق الاوسط. وهذا سيؤدي الى تدفق موارد ضخمة لإقامة نظام طاقة وتجارة آسيوي متكامل تمتد عبره خطوط انابيب وشبكات سكك حديدية عالية السرعة. بين عناصر هذا البرنامج اقامة طريق سريع عبر احد أعلى جبال العالم للوصول الى ميناء غويدار في باكستان. والذي يتم تطويره على يد الصينيين بهدف حماية نقل النفط من اي تدخل امريكي محتمل. وتأمل الصين والباكستان ان يؤدي البرنامج الى ازدهار وتطوير الصناعة في باكستان وهو ما غفلت عن القيام به الولاياتالمتحدة رغم الدعم العسكري الهائل الذي كانت تقدمه للباكستانيين. هذا التقارب قد يشكل حافزا للباكستانيين ليضربوا حركات الارهاب المحلية التي تشكل قلقًا متزايدًا لبمين في اقليم زينجانغ الغربي. ميناء غويندار سيصبح جزءا من «سلسلة جواهر» الصين الثمينة. تلك القواعد التي تبنيها في المحيط الهندي لأهداف اقتصادية وتكمن في طياتها استخدامات عسكرية محتملة ضمن تطلعات الصين في ان تتمكن في يوم من الايام من مد نفوذها الى الخليج العربي لأول مرة في العصر الحديث. كل هذه التحركات تبقى محصنة بعيدا عن قوة واشنطن العسكرية الكاسحة والتي قد تنتهي لتدمير الولاياتالمتحدة ايضا ولا يمكن ازالتها باللجوء لحرب نووية. في عام 2015 انشأت الصين ايضا بنك الاستثمار الآسيوي تمثل هي المساهم الاكبر فيه. وقد شاركت ستة وخمسون بلدا في حفل افتتاحه في يونيو الماضي في بكين. وشارك حلفاء واشنطن استراليا وبريطانيا وآخرون متجاهلين رغبات واشنطن بعدم المشاركة اذ تخلفت اليابانوالولاياتالمتحدة متخذة موقفا واضحا ضد المشروع. وقد ذهب بعض المحللين إلى ان المصرف الجديد قد يتحول الى منافس لمؤسسات بريتون وود «صندوق النقد والبنك الدوليين» التي تتمتع الولاياتالمتحدة فيها بحق الفيتو، بل هناك من يطمح الى ان تصبح مجموعة دول شنغاهي نظيرا متحديا لحلف الناتو. التحديات الماثلة في شرق أوروبا بالانتقال الى اقليم التحديات الثاني في شرق اوروبا هناك أزمة تطل برأسها على الحدود بين حلف الناتو وروسيا. وهي من الأهمية بحيث لا يمكن تجاهلها. ففي دراسته المتعمقة وبعيدة النظر لهذا الاقليم بعنوان: «خط المواجهة في اوكرانيا ازمة في الاراضي الحدودية» كتب ريتشارد ساكوا بشكل مباشر وواضح «ان الحرب الروسية الجورجية في اغسطس عام 2008 هي في الحقيقة اولى الحروب التي تستهدف وقف توسع حلف الناتو شرقًا وان ازمة اوكرانيا عام 2014 كانت الثانية وليس واضحا ما اذا كانت البشرية ستبقى على قيد الحياة اذا وقعت الثالثة». يرى حلف الناتو ان في توسعه شرقا مصلحة لا يرفضها احد، لكن روسيا ومعها معظم دول الجنوب لديها وجهة نظر مغايرة تماما بل معهم بعض الاصوات الغربية المعتبرة. جورج كينان مثلا حذر منذ وقد بعيد من ان توسيع الناتو يشكل خطأ تراجيديا. وقد انضم اليه رجل دولة امريكي بارز في خطاب مفتوح الى البيت الابيض واصفا الفكرة بانها «خطأ سياسي له ابعاد تاريخية». الأزمة الحادثة حاليا تعود جذورها إلى العام 1991 مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي. في ذلك الوقت كانت تسود يورويشيا(منطقة التلاقي بين اوروبا واسيا) وجهتا نظر لنظام أمني واقتصاد سياسي جديد. وحسب ما جاء في دراسة ساكوا فان احد الرؤيتين تدعو «لاوروبا موسعة» يكون الاتحاد الاوروبي قلبها النابض وتكون متوافقة مع الامن اليورواطلسي ومع المجتمع السياسي. وعلى الجانب الاخر كانت هناك فكرة «اوروبا العظمى» اوروبا القارية التي تمتد من لشبونة الى فلاديفستك ولها مراكز متعددة تشمل بروكسل وموسكو وانقرة وتعمل على تجاوز الانقسامات التي تعاني منها القارة. الزعيم السوفيتي ميخائل غورباتشوف كان من أكبر دعاة اوروبا العظمى وهو مفهوم قديم له جذور اوروبية في الفكر الديجولي ومبادرات اخرى. لكن الفكرة تبخرت مع انهيار روسيا تحت تأثير الاصلاحات الاقتصادية المدمرة في التسعينات ثم اعيدت للحياة مع بدء تحسّن اوضاعها وبحثها عن موطئ قدم على الساحة الدولية بقيادة فلاديمير بوتين الذي مع زميله ديمتري مدفيديف ظلا يكرران الدعوة لتوحيد كل اوروبا العظمى جيوسياسيا من لشبونة الى فلاديفستك؛ لتكوين شراكة استراتيجية اصيلة. الا ان المبادرة الروسية استقبلت في الغرب بفتور واعتبرت مسعى لإنشاء روسيا عظمى ومجرد محاولة لدق اسفين بين شمال امريكا واوروبا الغربية. لقد كان رد فعل الغرب على انهيار روسيا ينم عن فرحة بالانتصار ونظر اليه على انه اشارة «لنهاية التاريخ» والانتصار النهائي لديمقراطية الغرب الرأسمالية وكأن روسيا دحرت لتتراجع الى وضعها قبل الحرب العالمية الاولى مجرد مستعمرة اقتصادية للغرب. السعي لتوسيع الناتو شرقا كان بمثابة خرق مكشوف لتعهّدات شفاهية قطعت للرئيس الروسي في ذلك الوقت جورباتشوف بأن قوات الناتو لن تتحرك ولو بوصة واحدة شرقا. وذلك مقابل موافقته على قبول عضوية المانيا الموحدة في حلف الناتو وهو تنازل تاريخي غير مسبوق. اذ ان الناتو ما لبس ان باشر التحرك شرقا ليقف على حدود روسيا ويفتح الباب للدول التي كانت تدور في فلكها لتنضم الى حلف الناتو. العالم الإسلامي التحدي الثالث أمام أمريكا العالم الاسلامي الواسع اليوم مسرح حرب دولية ضد الإرهاب اعلنها جورج وولكر بوش عام 2001 بعد هجوم 11 سبتمبر الارهابي. وحتى نكون أكثر دقة كان ذلك اعادة اعلان لهذه الحرب. فهي قد سبق ان اعلنتها ادارة ريجان عندما تسلمت السلطة مصحوبة بخطاب ناري حول «طاعون نشره معارضو الحضارة اللئام» "plague spread by depraved opponents of civilization itself" على حد قول ريجان شخصيا وانه «عودة للبربرية في العصر الحديث» بكلمات وزير خارجيته جورج شولتز. الحرب الحقيقية ضد الارهاب تمت ازالتها بهدوء من التاريخ وتحولت بسرعة شديدة حربا ارهابية قاتلة ومدمرة اصابت أمريكا الوسطى وأفريقيا الجنوبية والشرق الأوسط مصحوبة بتداعيات قاتمة القت بظلالها على الحاضر بل وصلت إلى حد إدانة الولاياتالمتحدةالامريكية من قبل المحكمة الدولية. نجاح حملة بوش اوباما لمحاربة الارهاب يمكن تقييمها بناء على ملاحظات مباشرة. فعندما اعلنت الحرب كانت الاهداف الارهابية محصورة في زاوية ضيقة في الصراع القبلي الافغاني. وكانت العمليات تتم تحت حماية الافغان أنفسهم الذين يرفضون مثل هذه الممارسات او يزدرونها ولكنهم يقبلونها تحت تقاليد الضيافة القبلية. وهي التي اربكت الامريكان عندما رفض المزارعون الفقراء تسليم اسامة بن لادن لهم رافضين مبلغ الخمسة والعشرين مليون دولار الذي قدم مكافأة لمن يقوم بتسليمه. هناك من الاسباب ما يجعل المرء على قناعة انه لو تم اتباع عمل شرطي محكم او حتى اجراء مباحثات دبلوماسية جادة مع طالبان فربما امكن تسليم اولئك المتهمين في جرائم 11 سبتمبر للامريكيين لمحاكمتهم. ولكن مثل هذه الخيارات كانت مستبعدة تماما في الادارة الامريكية وكان الخيار البديل عملية عنف واسع النطاق ليس بهدف اسقاط نظام طالبان ولكن لتأكيد ازدراء الولاياتالمتحدة الواضح لعرض طالبان المبدئي بامكانية طرد ابن لادن. الى اي مدى كانت تلك العروض جادة لا نستطيع الحكم عليها طالما ان امكانية استكشافها لم تتم او ربما «ان الولاياتالمتحدة كانت مبيتة النية لاستعراض قوتها وتحقيق نصر كاسح يثير الخوف والفزع في نفوس الجميع عبر العالم. فهم لم يكونوا مكترثين لمعاناة الافغان او كم من الناس سنفقدهم». كان الخيار الاول رأي زعيم مناهض لطالبان ويتمتع باحترام واسع عبدالحق واحد من معارضين كثر ادانوا حملة القصف الامريكية التي اطلقتها في اكتوبر عام 2001 واعتبرها انتكاسة كبيرة لجهودهم الرامية لإسقاط طالبان من الداخل وكان ذلك هدفا يرون انه في متناول أيديهم. رأي عبدالحق الذي اكده ريتشاد كلارك رئيس المجموعة الامنية في البيت الابيض خلال ادارة الرئيس جورج والكر بوش لمكافحة الارهاب اثناء اجتماع لوضع الخطط لمهاجمة افغانستان. وحسب ما جاء في وصف كلارك للاجتماع ان الرئيس عندما اخبر بان الهجوم يخرق القانون الدولي صاح في غرفة الاجتماعات الصغيرة قائلا «لا اكترث لما يقوله القانون الدولي فنحن ذاهبون لركل حمار». هذا الهجوم قوبل بمعارضة حادة من بعض منظمات الاغاثة العاملة في افغانستان والتي حذرت من ان ملايين الناس على حافة المجاعة وان العواقب قد تكون وخيمة. الهدف الثاني للمطرقة الامريكية كان العراق. فغزو الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة لهذا البلد كان بدون سبب موثوق وهو أكبر جريمة ترتكب في القرن الحادي والعشرين. تسبب الغزو في مقتل مئات الالاف من الناس في بلد تم فيه تدمير المجتمع المدني بالعقوبات الامريكية والبريطانية وادى الى اشعال صراع مذهبي يمزق حاليا العراق والاقليم بأكمله. انها لحقيقة مذهلة عن مفكرينا (الامريكيين) وعن ثقافتنا الاخلاقية في الدوائر الرسمية والمستنيرة والتي يمكن قبول تسميتها بتملق «تحرير العراق». ذلك ان الاستبيانات التي اجرتها وزارتا الدفاع الامريكية والبريطانية توصلت الى ان 3% فقط من العراقيين يرون الدور الامني الامريكي في العراق كان مشروعا. وان اقل من 1% يعتقدون ان التحالف العسكري الامريكي البريطاني سيوفر لهم الامن بينما هناك 80% يعارضون وجود قوات هذا التحالف على اراضيهم ويؤيد اغلب العراقيين الهجمات التي تستهدف تلك القوات. أما بالنسبة لافغانستان فقد تم تدميرها الى الحد الذي لا يمكن اجراء استبيان يعتمد عليه فيها، ولكن هناك مؤشرات الى انه لو تم ذلك فلن تختلف اجابة الافغان عما قاله العراقيون. في العراق تعرضت الولاياتالمتحدة بصفة خاصة الى هزيمة قاسية مما جعلها تتخلى عن اهداف حربها الرسمية المعلنة ومغادرة البلاد تحت ضغط ايران المنتصر الوحيد في تلك الحرب. هذه المطرقة الامريكية جرى استخدامها في اماكن اخرى وبصفة خاصة في ليبيا حيث عملت القوى الامبريالية التقليدية الثلاث بريطانياوفرنساوالولاياتالمتحدة على تسويق قرار الاممالمتحدة لعام 1973 ثم اقدمت عمدًا وعن قصد على خرقه لتجعل من نفسها القوة الجوية للمتمردين. وكان القصد من ذلك قطع الطريق امام تسوية يتم التوصل اليها عبر التفاوض. مما رفع حجم الخسائر وابقى ليبيا مدمرة في ايدي الميليشيات المتحاربة ثم مؤخرا توفير قاعدة لداعش يمكن ان تستخدم لنشر الارهاب لمساحات اوسع. قدم الاتحاد الافريقي مقترحات دبلوماسية معقولة جدا ووافق معمر القذافي مبدئيا عليها لكنها استقبلت بالرفض من قبل الثلاثي الامبريالي. والنتيجة كانت فتح الباب امام تدفق ضخم للسلاح والجهاديين نشروا الخوف والعنف من غرب افريقيا الى بلاد الشام فيما ادت هجمات الناتو الى ارسال طوفان من اللاجئين من افريقيا الى اوروبا. يا له من انتصار آخر لسياسة «التدخل الانساني» كما سماه جورج بوش الاب عندما غزا الصومال وكما تكشف سجلات الشر دائما وابدا. فما حدث لم يكن شيئا مستغربًا اذا رجعنا الى الوراء الى جذوره الحديثة قبل اربعة قرون مضت. يتبع...