كلمة من ثلاثة حروف.. لكنها تملأ الدنيا بقربها وحنانها ومشاعرها وروحها ورائحتها.. ظل وشراب، وسرير وحجاب، وغذاء وآداب، وبسمة ورضاب. أمي.. حملتني 9 أشهر في أولها تغيرت نفسيتها ونظام أجهزة جسمها وأعصابها؛ فكرهت الأطعمة، ونفرت ممن حولها «أعراض بداية الحمل»، فإذا مضى ثلث المدة بدأ الثقل يشتد، وتباطأت خطواتها، وتعب جسمها نوماً ويقظة، فإذا كبر حملها تضخمت رجلاها وتألمت ساقاها! ففي بطنها عدة كيلوات تنقلها أينما حلت وارتحلت: «حملته أمه كرها ووضعته كرها»، فإذا حانت الولادة، واقترب المخاض؛ وتهيأ جسدها للوضع بدأ طلقٌ يشبه سكرات الموت -كما وصفت-، تتباعد أول وقتها ما بين كل ساعتين أو ثلاث ثم تتقارب فتصبح ما بين نصف ساعة وأخرى ثم كل 10 دقائق ثم كل 5 دقائق، فإذا اشتد أكثر أحست بشيء يقطع آخر ظهرها مع آلام شديدة أعظم من شق السكاكين في جنبيها الأيمن والأيسر.. تجلس ما يقارب الساعة هكذا حتى ينزل هذا المخلوق الصغير منفجراً باكياً.. فكأنه يشارك أمه آلامها.. وبعد ذلك تبدأ مرحلة الإرضاع والغذاء والنوم فتكون خادمته وسريره.. الأمُّ تلثُمُ طفلَها، وتضمُّه حرَمٌ، سماويُّ الجمالِ، مقدَّسُ تتألّه الأفكارُ، وهْي جوارَه وتعودُ طاهرة ً هناكَ الأنفُس يكبر هذا الرضيع ويكبر.. تلاحقه بكل مكان.. إن كانت بجانبه فعينها عليه وإن بعدت عنه فقلبها إليه.. تتألم لألمه، وتضحك لسروره، وتنام إذا نام وتستيقظ إن كان مستيقظاً؛ غاية مناها أن تكون طيّباً مرتاحاً ناجحاً باسماً.. وتضيق الدنيا بعينها إن مرضت أو تعبت أو حزنت، مهما كبرتَ.. فأنت لاتزال صغيراً.. ولو بلغت ال 40 عاماً أو ال 60 عاماً! تجدها تسائلك عن راحتك وطعامك ونومك، ولذا قال العرب: "يظل الرجل طفلا حتى تموت أمه، فإذا ماتت شاخ فجأة"، فهي المخلوق الوحيد الذي يعطيك بلا مقابل، ويمنحك خالصاً، بل حتى لو قصرت أو جفوت أو ابتعدت.. تدافع عنك أمامهم.. وتبتعد في مكان قصي ترسل دمعات الحب والوله والشوق لفلذة كبدها المشغول أو المسافر.. خاصة إن كان يجلس الأيام والأسابيع ولم ترتفع سماعة الهاتف بصوته! كي يسأل عن ذلك القلب والروح الذي طالما سكنه وآواه ومازال يمني قلبه بلقياه.. تذكرت هذه المعاني العظيمة الباكية الجليلة وأنا أجيب بهاتفي لصديق رن عليّ مستشيراً: ما رأيك؟ أركبت حقائبي وحاجاتي أنا وزوجتي وأولادي وأخذت إجازة لعشرين يوماً، سأذهب لرحلة صيفية لمكة والطائف وأبها، وتفاجأت اليوم بل قبل قليل أن أمي تعبت وأدخلها أخي المشفى وزرتها وأمورها لا بأس لكني متردد هل أذهب أم لا؟ لأنه لو لم أذهب فلن أستطيع أخذ الإجازة إلا بالعام القادم كذلك واعدت زوجتي وأولادي، هنا انفعلت جدًا.. قلت يا صديقي! لو كانت أمك طيبة واحتاجتك لحاجة صغيرة لكان لك أن تلغي رحلتك! فكيف وهي مريضة أدخلت المشفى؟! قال: فيه أخي وأخواتي، قلت: وكيف يفوزون ببرها وتُحْرم! وكيف وهي تحتاجك بمرضها! بل تخيل لو تضاعف تعبها أو ماتت! أي حرمان ستقع فيه؟ وأي ندم سيأكل قلبك، بل يا عزيزي لو أستطيع أن أعطيك الدنيا وأمثالها 1000 مرة وتعطيني أماً أجلس معها ساعة واحدة لقدمتها لك! هنا تأثر وبكى وغير قراره وجلس وأجّل الرحلة وماهي إلا 3 أشهر ثم ماتت! أيها الأبناء والبنات، وربِّكُم هذه مشاعر ابنٍ لم ير أمه مطلقاً! ماتت وله من العمر سنتان.. وفي كل يوم وليلة.. وغروب وشروق.. أتمنى على الله أن أراها ولو حلماً، فاللهَ اللهَ ما داموا بين أيديكم.. قبل أن يفارقوكم.. فتحسوا حينها بألم لا يمكن أن يزول إلا بحسن الظن باللقيا في دار الجنان.