يبدو أن المادة 19 هي الأكثر تداولاً وجاذبية من بين كل مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كما أنها الأكثر إشكالية على الرغم من وضوحها وبساطة صياغتها. ومفاد تلك المادة أن (لكل شخص الحق في حرية إبداء رأيه وفي حرية التعبير. وهذا الحق يتضمن حرية التمسك بآرائه بدون تدخل فيها. وكذلك حرية السعي وراء، وتلقي، ونقل المعلومات والأفكار، من خلال أي وسيلة إعلام بغض النظر عن حدود المعرفة). وهذا نص يتوافق مع تشريعات كل دول العالم تقريباً وتعديلاتها الدستورية. إلا أن المفارقة تكمن في وجود عدد هائل من المقموعين والممنوعين من إبداء آرائهم أو التعبير عن معتقداتهم في مختلف بقاع الأرض. وكأن تلك المادة الذهبية في معالمها الحقوقية مجرد لافتة لتزيين المكاتب. الاشتباكات اليومية ما بين المنادين بحرية التعبير والمعاندين لذلك التوجه المفتوح لا يمكن التعامل معه داخل مدارات فلسفية تجريدية، بل من خلال الوقائع. إذ يصعب تكييف هذا المبدأ المتمادي مع منظومة القيم لأي مجتمع ولأي نظام سياسي. وبالتالي ستبقى الإشكالية ماثلة بقوة ما بين القوتين. حيث تتشابك الأبعاد السياسية والثقافية والقانونية والاجتماعية على أرضية صلبة من التقاليد والقيم والعادات العنيدة. فيما يُفترض أن ينتج عن ذلك المعمل تجربة على درجة من الثراء والانفتاح تأخذ المجتمعات إلى آفاق تعبيرية أرحب. إلا أن شيئاً من ذلك لا يحدث في المجتمعات التي تجيد إخضاع ثقافة الحقوق إلى نداءات غرائزها، وتتفنن في الالتفاف على مستوجباتها. هذه المجتمعات تكون على الدوام عُرضة لصدمات التحديث ومهبات الأفكار المحمولة على الحرية الفائقة للتعبير. خصوصاً مع ما طرأ على العالم من قفزات اتصالية هائلة جعلت من العالم قرية إلكترونية صغيرة. وبالتالي بدت كل المجتمعات بلا استثناء داخل سوق دولي للأفكار بدون أي احترازات ولا مُرشحات. الأمر الذي يعني أن هذه المجتمعات باتت تحت حالة من الضغط القسري وليس الاختياري للتعامل مع تلك السوق الضاجة بالأفكار المتعلقة بحرية التعبير. بحيث لم يعد الفرد بمعزل عن مفاهيم الحرية بمعناها المطلق. ولم يعد بمقدوره التأني أو التردُّد أو الانتقاء لحظة تماسه مع تلك الضغوطات الكثيفة. حتى الحياد لم يعد مقبولاً أو ممكناً في موجات التبشير بفكرة حرية التعبير. هذا الحصار الكوني للفرد، بقدر ما يبدو مفتوحاً وجاذباً، له على الجانب الآخر مضاعفاته. وهو الأمر الذي يفسر حدة المواجهات على عدد من الجبهات وما بين كل القوى، المختلفة على تفسير معاني وحدود التلقي، ومديات التعبير عن المعتقدات. وذلك ضمن أطر قانونية وشبكة معقدة من القيم الاجتماعية. فمفهوم التعبير الضار يؤخذ بالاعتبار حتى في الديمقراطيات العريقة، التي لا تريد لحرية التعبير أن يكون لها أي سقف. لأن التعبير عن حرية الأفكار قد يتجاوز تلك المنصة لينحدر إلى الإفصاح عن خزين الكراهية. وعن الرغبات الدفينة في إقصاء الآخر. وما يتبع ذلك من تحريض وتهييج وتهديد للسلم الاجتماعي. لدرجة أن بعض المنادين بإطلاقية حرية التعبير يعطون لأنفسهم الحق في الإضرار العلني بمصالح الدولة تحت عنوان حرية التعبير. إن استجلاب أفكار الحرية من تلك السوق الدولية بموجب قاعدة التأثير والتأثُّر، قد يخلق حالة حوارية تنموية مثمرة. ولكن من جانب آخر قد يخل بمعيارية عدم الإضرار بالآخرين. خصوصاً عندما يستند تيار ما إلى قوة مالية أو حاضنة اجتماعية على حساب مكونات اجتماعية أقل على مستوى الإمكانيات. فمن يمتلك منصة الإعلام مثلاً قد يبالغ في إيذاء الآخرين. وهذا هو المفهوم الأمريكي لحرية التعبير، الذي يقتدي به اليوم معظم الداعين لحرية التعبير بوعي أو لا وعي. إذ يمكن ملاحظة المبادرات الاجتماعية التي تأسست في ظل ما يسمى بالربيع العربي من نشر قوائم بأسماء شخصيات أُختلف على موقفها وموقعها من الصراعات المحتدمة. وكذلك حملات المقاطعة المدبرة من منطلقات عنصرية وأيدلوجية وطائفية. وكل ذلك تحت مظلة حرية التعبير. بعض ما يشهده العالم العربي اليوم من الكراهيات المتبادلة نتيجة طبيعية لحرية التعبير المنفلتة، المستوردة في جانب كبير منها من تلك السوق الدولية. وهو استجلاب مبرمج لا تؤدي فروضه الذوات الخائبة المهزومة فقط، بل تيارات وأنظمة لها أجندتها. إذ يمكن لأي فرد أن يسعى وراء معلومات بمواصفات فكرية وشعورية خاصة، ويتلقاها، ويساهم بنشرها، بموجب المادة 19 التي تؤكد على حرية إبداء الرأي. بكل ما تدفعه إليه غرائزه من عدوانية وكراهية للآخر. الأمر الذي سمح بتآكل فضاء التسامح. إذ لا يمكن للتعبير عن الإحساس بالعنصرية أن يكون ضرباً من ضروب التعبير عن حرية المعتقد. ولا يمكن بحال أن يجيّر في خانة الأداء الديموقراطي. وإذا كانت المجتمعات المنفتحة تؤمن اليوم بحرية التعبير على اتساعها، فإنها تستثني منغصات التعبير عن الكراهية والإساءة إلى الآخرين أو إهانتهم أو تهديدهم في معاشهم أو حتى احتقارهم لأي سبب عرقي أو أيدلوجي. لأن حرية التعبير مضبوطة بإيقاع عقلاني يحد من العنف. ويمنع الاستقواء على مكونات النسيج الاجتماعي المغاير. فهي مؤسسة على رفض التفرقة بين الناس. وتبديد كل أشكال الاستعلاء. وهذا التفسير البسيط للمادة الذهبية يستلزم وجود تشريع حقوقي مدني أو التسريع بإقرار تشريع نظام الوحدة الوطنية؛ لئلا تغترف كل فئة من سوق الأفكار الدولي ما يعزز فرصتها لتفتيت وحدة النسيج الاجتماعي بحجة حرية التعبير.