الأزهار المقطوعة لا تعمر طويلا، وعندما يبدو لنا الكون كبيرا جدا نتوق حينها إلى ملاذ آمن و لانتماء محدد الأبعاد يحمينا من الشعور باللامتناهي في داخلنا، ذلك الإحساس الذي يحمله كل منا بصمت في داخله ونشعر به أحيانا بصورة هاوية لا قرار لها، لكننا عندما ننتمي إلى مجموعة ما فإنها تتحول إلى شاطئ أمان نرسو فيه ليحمينا من ذلك التهديد الغامض الذي يمثله ذلك اللامتناهي في داخلنا والعالم الخارجي من حولنا. ولهذا نتوق إلى الصداقة كمأوى نفسي بديل للفرد، وكتربة خصبة تنمو فيها روابط تقي الإنسان القلق والوحدة. يقول أبوالطيب المتنبي: " شر البلاد مكان لا صديق به" أما "أملي ديكنسون" فعبر عن الصداقة بقوله: "الأصدقاء أوطان صغيرة" والقائد الفرنسي "نابليون" باح ذات ليلة بحزنه وشجنه الى زوجته حينما قال لها: "لقد نلت من المجد والسلطة ما لم ينله احد قط، وبالرغم من ذلك فهأنذا لا أجد حولي صديقا مخلصا أستطيع الاعتماد عليه سواك". نحن بحاجة إلى أصدقاء نبثهم دواخلنا باطمئنان، حيث تغدو المشاركة العاطفية مع الآخرين علاجا فائقا وبلسما نفسيا في لحظات المعاناة تحديدا، فالعزلة تضاعف من آلام المرء وتجعلها فوق طاقته على الاحتمال، لكن وجوده مع المجموعة يشعره بأن الأحزان والمسرات تصيب الناس جميعا، وبأنه ليس هناك إنسان آمن من تقلبات العيش، ويخفف من انشغاله بالأفكار المتركزة حول الأنا، ويضعف الشعور برثاء الذات، ويسمح للشخص بمشاركة الآخرين أحزانهم وتجاوز آلامه الخاصة. تعددت تعريفات الصداقة كمحصله لتعدد الزوايا المنظور منها، فقد تناول عدد من الفلاسفة مفهوم الصداقة ومنهم أرسطو الذي اعتبرها بأنها حد وسط بين خلقين؛ المبالغة في طلب القبول من الجميع، وعدم الاكتراث بالقبول من الآخرين، كما يميز بين ثلاثة أنواع للصداقة وهي: صداقة المنفعة وصداقة اللذة وصداقة الفضيلة، ويبين أن صداقة المنفعة هي صداقة عرضية تنقطع بانقطاع الفائدة، أما صداقة اللذة فنتعقد وتنحل بسهولة بعد إشباع اللذة أو تغير طبيعتها، وأما صداقة الفضيلة فهي أفضل صداقة وتقوم على أساس تشابه الفضيلة وهي الأكثر بقاء. أما أبو حيان االتوحيدي الذي شغلته الصداقة لدرجة انه ألف فيها كتابا ضخما فيصفها بقوله: "إنه أنت إلا أنه بالشخص غيرك"، كما جاء في الرسالة القشيرية أن "المحبة لا تصلح بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر يا أنا". إن مسكن الذات في حاجة إلى شيء من التهوية والانفتاح، فلا غرابة في أن نراها تفتح نافذتها على مصراعيها من وقت لآخر لتتمتع برؤية النماذج البشرية التي تتوالى تحت سمعها وبصرها، لكن الكثيرين يضيقون من فرجة نوافذهم، ويظلون أسرى التحفظ في علاقاتهم خوفا من انكشاف مكامن قصورهم في حال الاحتكاك، وينطوي ذلك بداهة على اعترافهم بوجود إعاقة داخل النفس وكمال لدى الآخرين مع أننا جميعا نعاني من مكامن قصور، كل بطريقته الخاصة. تعد الصداقة مفهوما كيفيا وليس كميا يقاس بمدى وقوف الصديق مع صديقه في الشدائد ولا يقاس بطول مدة الصداقة، وهي أقرب للندرة من الكثرة، وعلى هذا الوجه تحمل الأقوال التي تفيد استحالة الصداقة كقول العرب (المستحيلات الثلاثة: الغول والعنقاء والخِل الوفي). تستلزم الصداقة مهارة الاحتفاظ بذلك التوازن بين الأنا والآخر، فالتأكيد المفرط على فلسفة ترتكز على الاهتمام بالمصلحة الذاتية سلوك يعبر عن خواء النفس ويتعارض مع الانتماء، كما أن الالتزام العميق بفلسفة تقوم على الارتباط مع الغير يصادر الفردية، وعلينا أن نبقي الأمرين ضمن الحدود المعقولة، وصدق الإمام الشافعي حينما قال: سلام على الدنيا إذا لم يكن بها صديق صدوق صادق الوعد منصفا