هل باتت لغة واحدة هي من تتحكم في وعينا؟ وبالتالي تشكل مفهومنا عن الآخر، سواء كان ذلك الآخر بعيدا عنا أم قريبا، فاللغة الحاضرة في المشهد الإعلامي العام اليوم لبعض كتاب الرأي، لغة مشحونة بالانفعال والمفردة الانطباعية حد التماهي، لغة تسير بسرعة "ما فوق الضوء" من كثرة ما هي منفعلة، ومباغتة للمجتمع في كل وقت، لغة تصنع خطابها ليس في مركز دراسات يعتمد الجدية والصرامة في حديثه عن ظواهر المجتمع وقراءة الآخر، أو اجتهاد باحث احدودب ظهره من كثرة البحث والتنقيب عن حقيقة ما، إن وجدها عبر عنها بموضوعية ولغة هادئة، وإن لم يجدها التزم الصمت لشدة احترامه لقيمة الكلمة، أو على أقل تقدير لغة المتسائل الذي يضع سؤاله قبالة القارئ ليشركه في عملية البحث عن جواب لذلك السؤال، دون أن يشوش عليها بكثرة المفردات الانفعالية، التي تجعله ينشغل عن جوهر السؤال بانفعالات الكاتب. أين يكمن الخلل في هذه اللغة؟ العيب الأبرز لهذه اللغة أنها منزوعة القيمة الحقيقية لوظيفة اللغة المتحضرة، لأن خطابها يؤزم المجتمع ويجعله في حالة سجال يبدأ من حيث ينتهي، والعيب الثاني - الذي ربما لا يقل خطورة عن الأول - أن من يروج لهذه اللغة ومن ينتجها، بعض من يسوقون أنفسهم على أنهم نخبة المجتمع، وقادة الرأي فيه، كأساتذة الجامعات والمثقفين وطلاب العلم، وشرائح أخرى تدعي الوعي في قراءة المجتمع، وبالتالي هم في ظني جزء من أزمة الخطاب وليس الحل، جراء ما يروجونه لهذه اللغة، سواء علموا بذلك أم لم يعلموا. ثانيا المشكلة هنا من يحمل لولاء الرأي، يتخلى فيها عن أبجديات صناعة الرأي، من لغة متزنة تشخص الحالة بموضوعية، تراعي فيها طبيعة المجتمع ومكوناته، ناهيك عن أنها تصور الواقع بخلاف ما هو عليه، وتقدم صورة مشوهة عنه على أنها مسلمة وحقيقة لا تجانب المنطق.! من كثرة ما استخدمت فيها الكلمات التعبوية والمستعطفة للقارئ، الخارجة عن سياق الموضوعية. لهذا تجدهم حاضرين بشكل دائم عبر وسائل الإعلام التقليدي، وما يسمى قنوات التواصل الاجتماعي الحديث من تويتر وأخواته، ربما لأنهم لا يستطيعون أن يحدثوا زوبعتهم لو كان حديثهم في أمكنة أخرى، لهذا تجد جل همهم المزايدة في عدد المفردات المندفعة بالعاطفة والسرعة نفسها، فأنت بمجرد أن تقرأ عبارة من هذه اللغة النارية تجد العبارة الأخرى تتبعها بنفس درجة الاندفاع، وكأن أحدا يلاحقها، بل البعض يصاب بحالة أشبه بالهوس بمجرد أن يجد صدى هذه اللغة حاضرا في المجتمع، حتى وإن كان حضورا سلبيا، فأنت اليوم بدلا من أن تسأل صديقك عن آخر كتاب قرأه، تسأله عن آخر تغريدة مرت عليه، أو عن آخر مقال صحفي لم يدع فيه كاتبه مفردة ملتهبة إلا واستخدمها، وكأن هذه اللغة المنفعلة مطلب في حد ذاته. والسؤال الذي يشرئب بعنقه هنا: لماذا يتخلى هؤلاء الكتاب عن القيمة الحقيقية في التعبير عن الرأي، وينجرفون وراء العاطفة والمفردة التي ليس لها محل من الإعراب؟ قارئي العزيز : أضع هذا السؤال بين يديك، لأنك معني بغربلة الغث من السمين، حين تتزاحم حولك الآراء. أما أنا فسأكتفي بأن أردد أبيات شاغل الناس أبو الطيب المتنبي: الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني فَإِذا هُما اِجتَمَعا لِنَفسٍ مِرَّةٍ بَلَغَت مِنَ العَلياءِ كُلَّ مَكانِ وَلَرُبَّما طَعَنَ الفَتى أَقرانَهُ بِالرَأيِ قَبلَ تَطاعُنِ الأَقرانِ لَولا العُقولُ لَكانَ أَدنى ضَيغَمٍ أَدنى إِلى شَرَفٍ مِنَ الإِنسان. إضاءة: قال لقمان لولده : "يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك".