الوطن أشبه بجسد الإنسان الذي يمثل كتلة واحدة غير قابلة للتجزئة، حيث إنه لا غنى للجسم عن أي عضو أو جهاز فيه كما هو معلوم بالضرورة، الوطن هكذا بالتمام، فكما أن الجسم يتكون من أعضاء وأجهزه تتضافر مجتمعة لإشعال الحياة فيه، كذلك هو الشعب بمختلف مكوناته وأطيافه يجتمع ليكون الوطن الواحد. وقد يظن البعض أن مكونات الشعب لا بد أن تكون متماثلة ومتشابهة لتكتمل وحدة الوطن وصورته، والواقع خلاف ذلك، حيث إن هذا الأمر ضد السنن الإلهية ولا يوجد له مثيل على أرض الواقع، فكما أن الجسم يحوي أعضاء وأجهزة مختلفة ومتباينة لاختلاف طبيعتها ووظائفها تعمل مجتمعة لبقاء الجسم، فإن الوطن كذلك هو الآخر قد يحوي أجناسا وأعراقا وأديانا ومذاهب مختلفة بل ومتباينة ولكنها تشكل في النهاية وطناً، يتفق جميع أطيافه على العيش فيه ضمن العقد الاجتماعي الوطني، الذي يساوي بينهم في الحقوق والواجبات ولا يفرق بينهم. مسألة الانتماء والولاء الوطني ليست مسألة نظرية مبنية على الشعارات والأغاني والقصائد والخطب الرنانة والمقالات الصحفية، بل هي أبعد من ذلك بكثير جداً، فهي مسألة وجدانية تتبلور في ذات الإنسان، تلد وتنمو معه وتصبح جزءًا لا يتجزأ منه تماما كسائر أعضاء جسمه التي تكتمل بها الحياة. ولهذا فإن خيانة الأوطان ممارسة شاذة ترفضها الفطرة الإنسانية السليمة، فهي تماماً كالشخص الذي يؤذي جسمه كأن يفقأ عينه أو يقطع لسانه أو يغرس سكيناً في فخذه، الإنسان الذي يقوم بهذا الفعل إنسان غير طبيعي ومن المؤكد أنه بحاجة إلى العلاج العقلي؛ لحمايته من نفسه وحماية الناس منه! يضحكني كثيراً عندما أسمع أو أقرأ لأحد المأزومين بالهاجس الطائفي في وسائل التواصل الاجتماعي مطالباته لشيعة المملكة بإثبات ولائهم للوطن بعد كل حادثة أو أزمة سياسية يكون المذهب الشيعي طرفاً فيها بشكل أو بآخر، ولكي نكون أكثر وضوحاً وصراحة هو عندما تكون إيران طرفاً في تلك الأزمة أو المشكلة. أعتقد شخصياً أن الرد على مثل تلك المهاترات مضيعة للوقت، ولكني أرد وأتناول هذا الموضوع الآن وفي هذا التوقيت تحديداً؛ لأننا نمر في وقت فتن وقلاقل؛ نتيجة للتأزمات السياسية التي قد يساعد تصاعدها على تمرير بعض المتمصلحين لأجنداتهم الطائفية على حساب وحدة الوطن. وبشكل بسيط جداً ردده من قبلي الكثير من أبناء المملكة الشيعة وهو أن انتماءنا وولاءنا لهذه الأرض ولهذا التراب، جذورنا وأصولنا منها وماضينا وتاريخنا كتب فيها، ولم يمنعنا انتماؤنا المذهبي يوماً من الأيام عن الشعور بالانتماء إلى هذا الوطن. أما إيران كدولة في المنطقة نتفق معها تارة ونختلف تارة أخرى فنحن كشيعة في المملكة العربية السعودية لا يربطنا بإيران رابط مميز أو استثنائي البتة، فالشيعة موجودون في غير إيران أيضاً فهم في باكستان وأفغانستان وأذربيجان واندونيسيا ونيجيريا وغيرها من البلاد، هذا فضلا عن دول الخليج والدول العربية، فإذا كان هناك شيء ما يربطنا بشيعة تلك البلاد من قبيل التقاطع في المذهب فهو ذاته ما قد يربطنا بشعب إيران لا أكثر من ذلك، كما يربط الإسلام بيننا كسعوديين مسلمين وبين جميع المسلمين في بقاع الأرض.. الاعتداء الأخير على سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد أمر مرفوض تماماً، وغير مقبول، وموقف الرفض هذا لا يحتاج من الأساس إلى الإعلان و"الاعتراف به"، وخصوصاً من جانب الشيعة في المملكة، حيث إن السفارة والقنصلية تقومان بخدمة الزوار السعوديين في مدينة مشهد، الذين يمثل الشيعة أغلبهم إن لم يكونوا كلهم، والذين يتوافدون على مدار العام لزيارة الأماكن الدينية. والاعتداء على القنصلية والسفارة هو اعتداء على قطعة من وطنهم وعلى جهاز حكومي رسمي يقوم برعاية مصالحهم وخدمتهم في الغربة ولا يمكن القبول به. الوطن كانتماء أعم من الانتماءات الفرعية الأخرى، وتغليب مصالحه والمحافظة عليها كفيل بالمحافظة على الانتماءات الأصغر والتي تندرج تحته، ولا مساومة على هذا الأمر بتاتاً، والذي يقول بخلاف هذا شخص غير منطقي، كما أن التشكيك في الولاءات لا ينطلق من شخص غيور بحق على الوطن وعلى وحدته.