الارضاع الأمي يقوي الرابطة الروحية والعاطفة بين الأم ووليدها، ويجعل الأم أكثر عطفاً بطفلها، وهذه الرابطة هي الضمان الوحيد الذي يحدو بالأم للاعتناء بوليدها بنفسها .فهو ليس مجرد عملية مادية، بل هو رابطة مقدسة بين كائنين، تشعر فيه الأم بسعادة عظمى لأنها أصبحت أماً، تقوم على تربية طفل صغير، ليكون غرساً في بستان الحياة. ولم تعرف البشرية إرضاع المواليد من بني الإنسان بألبان الحيوانات على نطاق واسع إلا في القرن العشرين. وقد بدأت تلك الموجة في أثناء الحرب العالمية الأولى بخروج المرأة الأوروبية لانشغال كثير من الأمهات في المجهود الحربي.. ثم زاد ذلك ضراوة بخروج المرأة الأوروبية إلى ميدان العمل، واستمرت الزيادة باضطراد إلى بداية الحرب العالمية الثانية حينما قلّ إنتاج المصانع من الألبان المجففة بسبب الحرب، ثم عاد الأمر على أشد مما كان بعد انتهاء الحرب عام 1945م. واستمر الخط البياني للألبان المصنعة والدول الصناعية الأخرى يوالي صعوده طوال الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ولكن منذ بداية السبعينات وإلى اليوم ازداد الوعي بأهمية الرضاعة نتيجة الأبحاث المتعددة التي أثبتت فوائد الرضاعة وأضرار الألبان المجففة على أطفال بني البشر. وبدأت الرضاعة تزداد يوماً بعد يوم في البلاد المتقدمة صناعياً رغم العوائق الكثيرة التي تقف أمام الرضاعة، وأهمها خروج المرأة إلى ميدان العمل وعدم تفرغها للرضاعة، مما دعا المنظمات العالمية إلى زيادة إجازة فترة النفاس والرضاع إلى شهرين بدلاً من أسبوعين وإلى تهيئة مكان قريب من مكان العمل تستطيع المرضع فيه أن تعود إلى طفلها كل ثلاث ساعات لترضعه ثم تعود إلى العمل. أما في الدول النامية (العالم الثالث) فإن الرضاعة كانت هي الأساس لإرضاع الأطفال وتغذيتهم، فإن لم تستطع الأم أن ترضع طفلها لأي سبب كان فإن المرضعات يقمن بهذا الواجب، إما بأجر أو تطوعاً.. وإلى عهد قريب كان الطفل يرضع من أمه أو من إحدى قريباتها أو جاراتها.. وربما يرضع الطفل من أكثر من واحدة.. وكان هذا شائعاً جداً، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أرضعته أمه آمنة بنت وهب، وأرضعته حليمة السعدية، كما أرضعته أيضاً ثويبة مولاة أبي لهب وهي التي أعتقها عندما بشر بولادة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن أجلها يخفف عنه العذاب يوم الاثنين بسبب فرحه بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وفي دراسة للدكتور محمد علي البار أوضح (أن في المملكة العربية السعودية وجد الأستاذ الدكتور زهير السباعي عام 1967م أن 90% من الأمهات يفطمن أولادهن في نهاية السنة الثانية من العمر، ويتم إرضاع جميع الأطفال تقريباً في الأشهر الستة الأولى من حياتهم، وذلك في منطقة تربة ولكن هذا الاتجاه المحمود تغير تغيراً كبيراً بحلول عام 1981م وصارت نسبة محدودة هي التي تكمل الرضاعة حولين كاملين. ووجد باحثون آخرون نفس الاتجاه الخطير، حيث يذكر الدكتور الناصر في بحثه عن الرضاعة في قرى تهامة بالمملكة العربية السعودية أن معظم الأمهات يكتفين بالرضاعة لبضعة أشهر ثم يعرهن إلى القارورة. ووجدت الدكتورة منيرة باحسين في دراستها ل 198 طفلا من المنطقة الشرقية عام 1981م أن 46% فقط من الأمهات كن يرضعن أولادهن). تأمل قول الحق تبارك وتعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة: 233]. لقد تضمن النداء الإلهي الكريم ثلاث معجزات طبية: 1- في قوله تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ): هذا أمر إلهي لكل أمّ أن ترضع أبناءها من لبنها، ولا تلجأ إلى غذاء آخر، وهذا النداء نسمعه اليوم بكثرة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، من منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف، بسبب الفوائد العظيمة التي اكتشفها العلماء في حليب الأم. ألا نستطيع أن نستنتج أن النداء الإلهي سبق النداء البشري بأربعة عشر قرناً! 2- في قوله تعالى (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ): تحديد دقيق للمدة اللازمة للإرضاع الطبيعي للطفل بحولين كاملين، واليوم نجد الأطباء يؤكدون على أن المدة المثالية للإرضاع هي سنتان. وتأمل معي كلمة (كَامِلَيْنِ) والتي نلمس فيها تأكيداً من الله تعالى على ضرورة إكمال السنتين وعدم التهاون في هذه المدة. 3- في قوله تعالى (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ): إشارة رائعة إلى أن الرضاعة لا تتم إلا بعد مرور سنتين من عمر المولود. وقد رأينا كيف اكتشف العلماء أن هاتين السنتين هما الأهم من عمر الطفل، حيث تعتبر هذه الفترة مرحلة حرجة يتكون خلالها الجهاز المناعي للطفل، وأن العديد من الأمراض تصيب الطفل خلال هاتين السنتين، ولذلك هم يؤكدون على أهمية أن ترضع الأم طفلها سنة كاملة والأفضل أن تتم الرضاعة إلى سنتين!