فيلم ويبلاش Whiplash 2014، يحكي قصة قارع طبول الجاز وهو شاب في السنة الأولى في معهد موسيقي مرموق في نيويورك. يضمه قائد الاوركسترا في فرقته، وتدور حبكة الفيلم حول العلاقة بين المعلم والتلميذ. المعلم قاس متعجرف لا يرحم، يستخدم قوته إلى أقصى مدى يمكنه الوصول إليه، وفوق هذا يحرص دائما على أن يوصل رسالة تفيد بأنه اقسى مما يبدو عليه، قد يصفع متدربا مرة واثنتين وثلاثة، قد يرفع كرسيا في قاعة التدريب ويرميه كقذيفة باتجاه متدرب لا يعلم أين أخطأ، فيصبح جرمه مضاعفا. أولا لأنه أخطأ، وثانيا لأنه لا يعلم أين خطؤه، بل قد يغادر أحدهم مركزه الذي حازه بجدارة في الفرقة لأنه ظن نفسه أخطأ ولم يكن كذلك. يبدو المعلم قائد الأوركسترا واعيا بما يفعل ويصرّ على هذا الاتجاه في التعليم، وبالرغم من أن كل ما نسمعه اليوم في أساليب التربية والتعليم يعاكس هذا الاتجاه تماما، إلا أن الفيلم ببراعة عالية يجعلك تفكر مليا في هذه الجدلية. لم تكن قسوة المعلم جسدية فقط، فهو لا يكفّ عن الشتم وتوجيه الإهانات، وكأنه يتعمد كسر التلامذة من الداخل، إنه يضغط ويضغط إلى أقصى ما تمكنه قوته، ومن ينكسر يغادر فورا. في حوار بين المعلم والتلميذ، يقول المعلم: "الحقيقة أنني لا أعتقد أن الناس كانوا يفهمون ما كنت أفعله في المعهد، لم أكن هناك لأكسب المال، يمكن لأي متخلف أن يحرك يده ويجعل الفرقة في سرعة واحدة، لقد كنت هناك لكي أدفع الناس إلى فوق مستوياتهم، كنت أعتقد أن هذا مهم وضروري جدا لنجاح الموسيقار، وإلا نحن نحرم العالم من لويس أرمسترونغ القادم، أو شارلي باركر القادم"، وحين يسأله الشاب العازف هل لهذا الضغط وهذه القسوة من حد، ربما هناك حد إذا تجاوزته فأنت تعيق المبدع أن يكون كذلك، أنت تعيق شارلي باركر عازف الساكسفون القادم عن أن يكون شارلي باركر. يجيب المعلم موضحا تماما جوهر فلسفته: "لا يا رجل.. لأنه لا يمكن أن تعيق شارلي باركر القادم"، إن ما يريد قوله هو أن الضغط مهما اشتد فإنه لن يكسر سوى الضعفاء، إنك مهما وبخت وعاقبت وضربت وحتى لو أهنت، فإن العباقرة الحقيقيين والذين هم قلة بالعادة لن يعيقهم ذلك، إنك تقوم بعملية تخليص وتنقية للأجواء من كل أصحاب الادعاءات والهراء حول النجاح، وإنك تساعد هؤلاء العظماء القلة من أجل اختبار القوة في داخلهم. لذلك يعتقد المعلم أن المأساة الحقيقية هي أن يقوم أضحوكة على المسرح ويهرج باسم الفن ويقدم مستوى رديئا ثم يقول له استاذه "أحسنت"، ويمضي ذاك فرحا وتنتهي القصة. يقول المعلم: "ليس هناك كلمات في القاموس توجع أكثر من good job". إن كلمات التشجيع لم تفعل شيئا سوى أنها ضاعفت من عدد الموهومين، الظانين بأنفسهم حسنا أنهم مبدعون. هي لم تفعل شيئا سوى أنها ربتت على أكتاف الفاشلين بأن الإبداع دائما ما يلقى فشلا في البداية، وأن العباقرة لا يفهمهم إلا القلة، وأن أعداء النجاح يمارسون النقد الدائم غيرة وحسدا. وأن الشجرة المثمرة يرميها الناس بالحجارة، وعليك أن تسير فالكلاب سوف تنبح.. أليس هذا ما نسمعه دائما من توظيف سيئ لعبارات صحيحة!! وهي لم تفعل سوى أن جعلت هؤلاء الفاشلين وأنصاف الجيدين يقفون على المسارح ويخرجون مواهبهم، ثم بعد أقل من سنة يقفون على مسارح أخرى وأمام شاشات الفضائيات ليحدثونا عن تجاربهم. والنتيجة هي إغراق السوق والعالم وملء فراغ الصمت وبياض الأوراق بأعمال نصف جيدة أو رديئة فيتدنى الذوق العام، وينشأ جيل يرى القبيح جميلا والجميل متكلفا. إن القسوة في ضوء هذه الفلسفة لن تعيق المبدع الحقيقي ولكنها ستنقذ العالم من الهراء القائم على التشجيع الكاذب خشية بكاء الفشلة، وليس على المعلمين والأساتذة والخبراء أن يمسحوا الدموع ويربتوا على الأكتاف، فليدعوا هذه المهمة للأمهات والعشاق. أحد أساتذتي الفضلاء في مرحلة الدكتوراة كان يقول دائما حين ينكرون عليه قسوته في التعليم وإفراطه في ذلك: "من يبكيك يبكي عليك، ومن يضحكك يضحك عليك". لقد عانى الشاب كثيرا من أجل أن يكون الأعظم، صبر على قسوة وضرب وإهانة معلمه، رغم أنه وقف أمامه الند للند، والغريب أنه كسب بذلك احترامه في النهاية بسبب قدراته الموسيقية وشخصيته الشبيهة به كما أعتقد، إن هذا النوع من الناس يميزون بعضهم، فالأقوياء لا يحبون سوى الأقوياء والحيتان تعرف بعضها، وسيبحث أنصاف المبدعين والمثقفين والفنانين والعلماء عمن يغرقهم بعبارات التشجيع.