كل استعراض منصف لتحركات المحور الدولي مؤخراً، يسفر للقارئ بوضوح عن صناعة جيش كردي من مجموعات متنوعة من المقاتلين الأكراد، لكن في سياق مركزي موحد لفكرتهم، مدعوم ببناء سياسي متفق عليه من البي كي كي -حزب العمال الكردي-في تركيا الى كردستان العراق، الى الاتحاد الكردي في سوريا، المناهض في الأصل لثورة سوريا، وذي العلاقة القوية مع النظام وإيران، الى حزب الشعوب الديمقراطي الصاعد حديثاً. كلها تؤكد تطابقا سياسيا للمشروع، الذي ينفذه الجيش الكردي الجديد، بتوافق مع ذوي المصلحة الإقليمية من المشروع، وهما تل أبيب وطهران، ورعاية مباشرة وتدخل تنفيذي داعم من واشنطن والمعسكر الغربي. ومشكلة القضية الكردية وضعها في بورصات صراع صعبة تستثمر صعودها أو هبوطها، من خلال سهولة اختراق بنائها أو فصائلها وتوجيهه نحو مشاريع معاكسة تعود فتضرب هذا المجتمع الكردي أو المجتمع العربي أو الأناضولي الشريك معه. ولوضع المقال في سياق محدد نطرح هذه الأسس لتفكير هذه القوى: 1- منذ انطلاق الثورة السورية كان هناك توافق إقليمي للأطراف التي ذكرنا والغرب، بأن إسقاط الأسد ببديل إسلامي معتدل أو ببديل ديمقراطي هو مهدد لهذه الأطراف، وخاصة مسار الأمن القومي لإسرائيل والنفوذ السياسي لإيران معا، فمسألة رفض حصيلة الثورة نحو هذا المسار كان قراراً نهائيا- ولا يزال- لهذه القوى. 2- تعرض الميدان العسكري السوري لصعود وهبوط متعدد، ففي وقت أَثخنت فيه داعش صفوف الثوار ومزقت خريطتهم، وبلغت التدخلات مستوى عميقا في ميدان الثورة، وتعرضت لتآمر من أصدقائها وخصومها بالتنسيق مع واشنطن، وانهارت مواقع بالفعل أمام النظام والميلشيات الإيرانية المتعددة، عادت هذه القوات للانتكاس من جديد ولم تستطع الحسم. 3- ومن خلال الجولة الأخيرة لانتكاسات قوات النظام، وحتى قبل صعود تحالف جيش الفتح، وما أسفر عنه حجم الاستنزاف لميلشيا حزب الله الإيرانية في لبنان في معاركه في العراقوسوريا ثم استدعاؤه لليمن، تبين أن جبهة النظام وإيران وخاصة بعد معركة القلمون الأخيرة، عاجزة عن تحقيق حسم يرضي ذلك التوافق الدولي الإقليمي. 4- وسواء كانت عمليات دفع داعش ضمن خطة شاملة، أو تقاطع جغرافي موسمي واختراق سخّرته المخابرات الإقليمية المتعددة لتناقضاتها، فإن خريطته تطورت عن تصور المستثمرين لداعش، وكان الرهان على تسخير ذلك الدعم الدولي الضخم بعد الموصل، ليكون حسما عسكريا يعود به المشروع السياسي التوافقي بين طهرانوواشنطن لسحق أي تمرد سني واخضاعه للعملية السياسية القائمة. 5- لكن حكومة بغداد في صورتها السياسية، أو في حقيقتها كحكومة ميليشيا تتبع للمراجع الموالية لإيران، فشلت فشلاً ذريعاً. 6- هذا الانكسار الكبير دفع المشروع الدولي لتغيير جبهة القتال بشريك أكثر فاعلية وتحويل طموحه السياسي الى ذراع يخدم المشروع البديل لسوريا، والذي يضمن عدم سقوط سوريا في يد أي مشروع ثوري سوري، حتى ولو جرى توافق سياسي انتقالي يحسم خلافات الثوار. 7- هنا البديل الذي بدا جاهزاً وأكثر تنظيماً، ولديه هدف أيدلوجي واعتقاد مظلمة موحدة، ولها كفاءة أكثر من البيت السياسي الشيعي في العراق، الذي فشلت صناعته الإيرانية ولو مرحليا رغم الدعم الأمريكي والإسرائيلي الضخم، هو المشروع الكردي، ليُستثمر في توقيت دقيق أمام خريطة داعش الانفصالية لتقسيم العراقوسوريا، ليواجه بخريطة تقسيم بين العراقوسوريا، ودويلة علوية في الساحل، ويُحضّر المشهد مستقبلا في تركيا لصالح المشروع، إما بفوضى أو اضطرار سياسي. ولذلك لا يمكن أن يُعتبر كل ما يجري من تنقل في جبهات الحرب وتنظيم اجتياح الأكراد، بدعم من ذات القوى أي إيران والنظام، وواشنطن وتل أبيب، قد جرى بسياق عفوي، هذا لا يُمكن قبوله في التحليل السياسي، خاصة بعد شهادات موثقة عن تهجير العرب والتركمان من مناطق محددة. وليست هذه القراءة مقدمة كيقين فقد تَتبدل أدوار اللعبة وفرصة فشلها لا تزال قائمة. لكن الواضح اليوم أن انهيارات الميدان الأخيرة، من هنا وهناك، باتت تدفع هذه الترويكة بقوة الى دفع هذا المشروع البديل، ولا يعني الغرب ولا إيران بالطبع أي وقود دماء جديد، ما دام سيَخلص الى نوع من التقسيم يمنع مهددات مصالحهم الكبرى ويوقف الحرب، بعد خريطة جديدة يبدو فيها جلياً أن الجناح المتطرف من الحركة الكردية فرس الرهان. ومن هنا تبرز علاقة ذلك بتغيير المعادلة السياسية في تركيا، لتحييد أكبر قوة قادرة على افشال المشروع وهي حليف للثورة السورية، وهناك سؤال يُطرح لماذا تقبل إيران ودول أخرى بدولة كردية في سوريا تتحد كونفدراليا مع كردستان العراق، وهي لديها مهدد في كردستان إيران. والجواب على ذلك يتضح بصورة جلية حين نستعرض تاريخ الأمم والحروب الكبرى، فوجود عناصر مشتركة لا تمنع هذا الطرف من تحويل مسار الحرب خارج أرضه، في حين يعتبر شراكته وقاية لدولته حين يكون هو طرفا فاعلا في الدولة الأخرى. إن مواجهة هذا المشروع لا تتحقق عبر البربوغندا والملاعنة الإعلامية ولا القطيعة السياسية، لكنها بمعالجة واقع الثورة السورية وصناعة مشروع سياسي بديل للمشروع الدولي الإقليمي يعزز وحدتها، ومسارات التأثير الكبرى التي كررناها قديما، الميدان، والقرار السياسي الموحد في يد مرجعية قيادية سياسية ثابتة، واستثمار التقاطعات بين تركيا ودول الخليج العربي وغيرها، دون الثقة المفرطة ولكن عبر قواعد المصالح المشتركة.