سؤال بات ملحا لكل مجتمع يسعى لحل مشكلاته والارتقاء بسبل الحياة فيه، وليس الجواب أن لدينا بعض الأفراد المبدعين، فأنا أدرك أن أي مجتمع لا يخلو من أفراد مبدعين نشاهدهم عن قرب أو تنوه بهم وسائل الإعلام، لكن حاجتنا لا تقتصر على بضعة أفراد يتفوقون في بعض مجالات الإبداع، فنحن بحاجة إلى جيل مُبدع ومُفكّر، ونطمح أن نجعل من التفكير الإبداعي مطلباً عامّاً يكتسب طلابنا مهاراته، ويتعلمون أساليبه من خلال تهيئة البيئة التي تطلق شرارة الإبداع في مدارسنا وجامعاتنا. ومن مقاييس تقدم الأمم كما يقول لويس البرتو ماتشادو (Luis Alberto Machado) نسبة عدد المبدعين فيها إلى عدد سكانها. فهم الثروة الحقيقية التي تتطلب مضاعفتها لتحقيق تقدم أسرع واشمل وللشروع في بناء المستقبل من الآن. التعليم الذي يقف عند حشو الأذهان بالمعلومات واجترارها لا يساعد في تحقيق طموحنا، ويعيق العقول عن القيام بوظائفها، تصور لو أن لدينا (ماكينة) توضع فيها المواد الخام، فإذا بها تُخرج هذه المواد في نفس صورتها الخام، دون أن يتم تصنيعها في منتج جديد، لا شك أننا سنعتبر هذه الماكينة معطلة بالتأكيد، هذا مثل للدماغ الذي يستقبل المعلومات ثم يستعيدها ذاتها دون أي تغيير أو انتفاع، إنه دماغ معطل. في كتابه الشهير «كيف تُضاعف ذكاءك؟» يُشير سكوت وات (2005م) إلى أن غالبية البشر، تميل إلى استخدام نحو 10% أو أقل من قدراتهم العقلية، تاركين بذلك مخزوناً هائلاً من الطاقة العقلية المعطلة. وفي كتابه هذا، يكشف عن الأساليب التي تساعد على استغلال تلك الطاقة ومضاعفة الأداء العقلي. إن التفكير الإبداعي يعني الاستعداد والقدرة على إنتاج شيء جديد أو حلّ جديد لمشكلة ما، فهو التفكير الذي يؤدي إلى التغيير نحو الأفضل. ولا يقتصر الإبداع في مجالٍ معين من مجالات الحياة فمجالات الإبداع مفتوحة لتشمل الإبداع العلمي والتقني والأدبي والثقافي، والاقتصادي والاجتماعي.... قد يعتقد البعض أن الإبداع خاص بأفراد عباقرة أو شعوب بعينها، لكن أكثر الدراسات والأبحاث تؤكد أنّ تعليم التفكير الإبداعي أمر ممكن لمعظم الطلاب. ومن أهم أساليب تنمية الإبداع أن ينطلق التعليم من أسوار المدرسة إلى مواقع الحياة الاجتماعية في رحلات تعليمية مجدولة، وقد أصدر بنتلي كتاباً حول التعلم خارج أسوار الفصل الدراسي سماه (نظام مدرسي لعالم مُتغيّر)، حيث نادى فيه بتوثيق العلاقة بين المدرسة والمجتمع والتكامل بينهما. وأكد على تطبيق الطلبة لما يتعلمونه، ولا يقتصر على الامتحانات فقط. مما يتطلب الإعداد الجيد للطلبة لممارسة التعلم المستمرّ وحلّ المشكلات التي تواجههم طيلة حياتهم. وفي القرآن الكريم نموذج للتعليم ينطلق فيه المعلم والمتعلم إلى مواقف الحياة العملية التي تحتاج إلى معالجة بأساليب جديدة، كما في قصة الخضر (المعلم) مع موسي عليه السلام (المتعلم). لقد جاء موسى عليه السلام بعد رحلة شاقة إلى الخضر وقال له «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا» (66) سورة الكهف، وبعد أن اتفقا على ضرورة المثابرة والقيام بالمهام المطلوبة، وجدنا أن التعليم لم يكن في جلسة مغلقة بل انطلق العالم والمتعلم إلى ثلاثة أماكن (البحر والسفينة) و(البيت والغلام) و(القرية واليتامى)، وينص القرآن في كل مكان على التعبير بالانطلاق «فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ...» «فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا...» «فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ...». قد يتوهم بعضنا أننا لسنا بحاجة إلى الإبداع وأن بوسعنا شراء كل مبتكرات العصر من الأجهزة والمنتجات المختلفة، لكن هذا النظرة الاستهلاكية لا تتقدم بها أمة بل تعجز عن حماية عرينها من الطامعين، وقد عرض علينا القرآن قصة ذي القرنين حينما لقي قوما «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» (94) سورة الكهف وكان رده على هذا العرض المالي: «قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا» (95) سورة الكهف، فدعاهم إلى المشاركة بقوة في خطوات بناء السد الدفاعي وتم إنجازه بطريقة مبدعة. إن تنمية الإبداع تتطلب تضافر الجهود من المؤسسات التربوية والإعلامية والمهنية كافة وتظل المدرسة هي الحقل المنشود الذي يتمّ فيه تطوير المواهب وتحريضها وإعداد طلابنا للتفكير بطريقة إبداعية، فمتى يتحقق هذا الهدف؟ قل عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا.