يرتبط التعليم بعلاقة وثيقة بالاقتصاد والتنمية بشتّى مجالاتها، فقد أصبح من المسلمات أن التعليم هو الرافد الرئيس للاقتصاد والتنمية في جميع الدول المتقدمة، وإذا ما رغبنا في بناء حضارة وطن بعمق تاريخ المملكة وجغرافيتها ومكانتها الإسلامية والعربية والعالمية، فليس لنا سبيل سوى التعليم الجيد. وقبل مناقشة الواقع والطموح في علاقة تعليمنا بالاقتصاد، فإنه من المناسب أن نتفق جميعاً بأنه لا يمكن تحقيق أي تنمية تضمن حياة كريمة للمواطن بدون تعليم جيد تضمنه له الدولة، ونعي جميعاً أيضاً أن التعليم الجيد هو الوسيلة الرئيسة لتحقيق الأمن قبل دور السلطة الأمنية، والتعليم الجيد هو القناة الرئيسة لتحقيق الصحة الجيدة قبل الوقوف في طوابير الانتظار في مستشفيات وزارة الصحة، والتعليم الجيد هو الطريق الوحيد لدمج المجتمع في حياة مدنية حضارية تنبذ التعصب بكافة أشكاله الفكرية والسلوكية وتحقق الانتماء الوطني نحو هدف مشترك للجميع يقود لبناء المجتمع. ومن ناحية اقتصادية، التعليم هو المسار الوحيد الذي ينبغي أن نسلكه لبناء اقتصاد متنوع يتجاوز براميل النفط من مخزون الأرض الذي حبانا الله إياه بلا حول منا ولا قوة، إلى مخزون وإبداع العقول البشرية التي أمرنا الله باستخدامها لعمارة الأرض. وإدراكاً لأهمية التعليم في بناء الاقتصاد والتنمية والعقول وتحصينها، وجّهت الدولة جزءا كبيرًا من اقتصادنا خلال العقود الماضية للتعليم تحت مسمى «الإنفاق على التعليم» للاستثمار في الأجيال القادمة، وكان التركيز على الكمّ للتعليم مع أنه كان بالإمكان الموازنة بين المسارين الكمي والنوعي. بعد هذه العقود وفي هذه المرحلة التي لم تعد تسمح بالتأخير في تطوير التعليم ورفع جودته، نطرح هذا السؤال المهم: هل أصبح تعليمنا رافداً لاقتصادنا؟ هل معدل الإنفاق على تعليمنا يوازي جودة مخرجاته؟ أم أن تعليمنا لا يزال ينفق عليه الكثير من المال ويستهلك الكثير من الجهد، وعائده لا يزال أقل من المأمول؟ حاولت جاهداً البحث عن معلومات وبيانات لكي أقدمها لكم للمساعدة في الإجابة عن هذه التساؤلات، ولكن الحقيقة المرّة التي وجدتها، أنه من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات بمنهجية علمية واضحة حتى الآن، وذلك لعدم توافر الكثير من المؤشرات التعليمية التي تساعدنا في الحكم على كفاءة التعليم وعلاقته بالاقتصاد. ولكن سيتم الاستناد إلى بعض المؤشرات المشوبة بالشك في مستوى دقتها، منها نتائج طلابنا في الدراسات الدولية ومقارنتها بأقرانهم حيث يتفوق أقرانهم عليهم بفارق كبير في دول كثيرة وربما معظمها يقل مستواها الاقتصادي عن المملكة بدرجات كبيرة. ومن المؤشرات المتاحة أيضاً على ضعف الجودة النوعية للتعليم العام تبنّي الجامعات للسنوات التحضيرية التي كان أحد أسباب وجودها هو ضعف مستوى أداء خريج المرحلة الثانوية حيث يقدم له مقررات تأهيلية في السنوات التحضيرية لمعالجة الضعف. ومن المؤشرات المتداولة أيضاً تقارير سوق العمل التي تؤكد أن مهارات خريجي التعليم وخاصة العام ليست بدرجة مناسبة تسمح لهم بأن يُنافسوا غيرهم من غير السعوديين في العمل. وبالرغم من وجود هذه الشواهد المتاحة إلاّ أنه لا يزال ينقصنا الكثير من المعلومات والبيانات الدقيقة التي تساعد في الحكم على كفاءة التعليم وكونه رافداً اقتصادياً من عدمه، فمؤشر عدد الملتحقين بالتعليم من إجمالي المستحقين له، ونسبة الذين يتسربون منه قبل إكمال المرحلة الثانوية غير متوافرة بدقة، أو على الأقل غير متاحة للمجتمع والباحثين ليساعدهم على فهم نظامهم التعليمي وتأثيره في اقتصادنا. وكما يقول الحكماء: الإغراق في مناقشة مشكلات الماضي لذاتها وتقاذف التهم بشأنها، لا يصنع حاضراً ولا يبني مستقبلا. الآن، من الحكمة أن ندرس مشكلات تعليمنا ونتعرف على جذورها ومسبباتها لكي لا نقع فيها مجدداً، وكذلك يسهل معالجتها، ولا نكتفي بالانطباعات والتوصيات الشخصية، بل نعتمد الدراسات والتقارير. وحتى نكون أكثر واقعية ونتخذ خطوات عملية للربط بين التعليم والاقتصاد، فإننا ينبغي أن نوجّه بوصلة التركيز في تطوير التعليم من تعليم المعلومات، إلى تعليم الاقتصاد الذي يتطلب التفكير واكتساب مهارات الحياة التي تجعل كل مواطن فردا مسؤولاً منتجاً يسهم بفاعلية في بناء المجتمع. كما لا ينبغي أن يغيب عن الذهن أثناء التفكير في ذلك بأن مجتمعنا بحاجة إلى جميع الأفراد بمستويات تفكيرهم المختلفة، فلكلٍ دوره الإيجابي إذا أُحسن التوجيه والاستثمار. إن تغيير التركيز من تعليمنا المتمحور في فلسفته وجميع عملياته على نقل المعلومات فقط، إلى تعليم يتمركز حول الفرد بتفكيره ومهاراته ويبني مواطنين منتجين، يتطلب ربط تعليمنا باقتصادنا في جميع مراحله بدءاً من رؤيته ووصولاً إلى تنفيذ عملياته الجزئية داخل الصف. فعلى مستوى التخطيط نحن بحاجة إلى تحديد المؤشرات التعليمية التي ترتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالاقتصاد سواء دعماً أم هدراً حتى نتمكن من توجيه السياسات والعمليات والإجراءات نحو هدف مشترك يمكن تتبع مسارنا لتحقيقه. ولتوضيح ما أقصده هنا من مؤشرات تربط بين التعليم والاقتصاد، أورد لكم هذا المثال: مؤشر تحصيل الطالب وتمكنه من المعارف والمهارات وخاصة مهارات التفكير والحياة باعتباره مؤشرًا نوعيًا على جودة التعليم. وبناءً على ما نمتلكه من بيانات ومعلومات حول هذا المؤشر كما ورد ذكرها سابقاً، يتبين أننا ننفق الأموال الكبيرة على التعليم دون الحصول على النتائج المتوقعة التي توازي حجم الإنفاق أو تقاربه، وهذا الحديث عن العموم وليس عن الحالات الفردية، حتى لا نلغي التميز الفردي في تعليمنا. وللتعرف على أسباب ذلك الضعف في التحصيل واكتساب المهارات، لابد من إجراء العديد من الدراسات، ولكن بالتأكيد هناك مسببات كثيرة لضعف مخرجات التعليم إجمالاً، منها المعلم، والطالب نفسه، والأسرة والمجتمع، وبيئة التعلم أيضاً. لكن المجال في هذا المقال لا يتسع للتفصيل في كل منها، وسوف أكتفي بجانب واحد فقط يُعد مطلباً من السهل تحقيقه لكونه يركز على جوانب مادية في أغلبها، وهي البيئة التعليمية في مدارسنا. حسب المشاهدات والمطالبات فإن هناك عددًا كبيرًا من مدارسنا لا توفر بيئة تعليمية مناسبة للطالب سواء من حيث البيئة الفيزيائية التي تركز على ظواهر الأشياء من مبانٍ ومحتوياتها من ملاعب ومطاعم وغيرها، أم من حيث التجهيزات اللازمة لإتمام التعلم من معامل وتجهيزات تقنية وغيرها، ويزداد الأمر سواءً إذا ما عرفنا أن هناك نسبة من مدارسنا عبارة عن مبانٍ مستأجرة غير مناسبة كبيئة تعلم أساساً، وقد حاولت الحصول على نسبة دقيقة للمدارس المستأجرة ولم أحصل عليها حتى كتابة هذا المقال، وهذه المدارس التي وصلت نسبتها في أعوام سابقة إلى أكثر من 70٪ من مدارس المملكة، وما زالت تمثل مشكلة كبيرة أمام وزارة التعليم للقضاء عليها وربما تحتاج سنوات لحل هذه المشكلة. وينبغي أن لا نلوم طلابنا كثيراً على انخفاض مستوى أدائهم إذا أخذنا في الاعتبار تلك العوامل المختلفة، وخاصة بيئات التعلم التي لا توفر فرصاً متساوية لجميع الطلاب في مختلف المناطق والمحافظات، ونؤكد على أهمية مراعاة ذلك للمتخرجين من تلك المدارس سواء في اختبارات القبول للجامعات التي يقدمها قياس أو حتى في نسب القبول في الجامعات. وللتأكد من اتجاه العلاقة بين تعليمنا واقتصادنا حاولت الربط بين عناصر مختلفة في نظامنا التعليمي معتمداً على إحصاءات وزارة التعليم المتعلقة بالمدارس والطلاب والمعلمين في أحدث نسخة منشورة للعام 1434- 1435ه، وجدت أن نسبة من المدارس لا يتجاوز عدد طلابها 200 طالب، وهذا من وجهة نظري يُعدّ هدراً كبيراً، لأن نسبة منها مبانٍ مستأجرة، ونصابها من المعلمين مكتمل، وقد لا تبعد عن بعضها سوى عدد محدود من الكيلومترات، وبالتالي فإن تكلفة الطالب في تلك المدارس مرتفعة جداً ولا توازي جودة مخرجاتها. وقد أخبرني أحد الزملاء في وزارة التعليم بأن هناك مشروعًا بعنوان «المدارس الصغيرة» ويهدف إلى دمجها، وخاصة المستأجرة منها، وكان يسعى إلى تقليص عدد المدارس المستأجرة حتى تقترب الوزارة من هدفها الذي أعلنته بالقضاء على المباني المستأجرة، وربما حقق بعض المكاسب الاقتصادية من ناحية خفض كلفة تعليم الطالب فيها، وللتصويت فقط حول هذه المشكلة، فقد كان ينظر لها في عقود سابقة على أنها حل مناسب للانتشار في التعليم في المملكة، ولكنه تسبب في مشكلة أصبحت صعبة وحلها مكلف جداً، وما نخشاه أن تكون الحلول المقترحة لتطوير التعليم اليوم تخلق مشكلات يصعب حلها في المستقبل ونبقى عقودا طويلة ندور في فلك حل المشكلات بلا تطوير، ولذلك لابد من مشاركة المجتمع والاستناد في الحلول إلى الدراسات والأبحاث العلمية. الوضع الحالي لتعليمنا من خلال بيانات هذا المؤشر يؤكد لنا، أننا بحاجة إلى تدخل فئات مجتمعية متعددة وأهمها اقتصاديون لتطوير التعليم حتى نضمن حلول مشاكله الأساسية ويصبح رافداً للاقتصاد الوطني والتنمية بجميع مجالاتها. ونعي تماماً بأن الحمل ثقيل أمام وزير التعليم عزام الدخيّل الذي تفاءل به الجميع، وقد بدأ حراكاً رائعاً في بث روح الأمل لدى الأغلبية وخاصة المعلمين بأن المستقبل مشرق بإذن الله في ظل حزم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وعزمه على وضع إكمال مسيرة التطوير والتنمية في كل المجالات ومنها التعليم الذي يعد حجر الزاوية لكل مسارات التنمية الوطنية. ويزداد التفاؤل عندما دمجت قطاعات ومستويات التعليم في وزارة واحدة تضمن توحيد الرؤى والأهداف وإيجاد التكامل كما هو الحال في توحيد جميع الجهات الاقتصادية والتنموية تحت مظلة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الذي سيضمن بإذن الله تكامل العمل وتحقيق التنمية بلا تكرار الجهود أو تنازع المهام أو تقاذف التهم عند التقصير. وعوداً على ما بدأته في المقال حول العلاقة بين تعليمنا واقتصادنا، لعلنا نتوقف قليلاً عند هذا المؤشر لنجيب عن السؤال الذي طرحناه، وهو: هل تعليمنا رافد اقتصادي للوطن، أم أننا ما زلنا ننفق الأموال ونستهلك الوقت في بناء نظام تعليمي لا يزال دون مستوى الطموح؟ أترك لكم التعليق والمشاركة في مناقشة الفكرة والإجابة عن السؤال. لعلي في مقال قادم بإذن الله، أتطرق لبعض المؤشرات التعليمية وأطرح بعض الأفكار التي ربما تسهم في إيجاد بعض الحلول لذلك..