أتذكر أني درست طالبا أنيقا ووسيما رأيته يجلس آخر الفصل، علامات الخجل ترتسم على وجهه المشرق بالهدوء والأدب، وفوق ذلك والمهم أنه كان يبدو أكبر الطلاب سنا، طلبت من الطلاب في أول محاضرة أن يعرفوا بأنفسهم والعين عليه أنتظر دوره بشغف كي يعرف الجميع باسمه ولأعرفه مبدئيا ولأجري حوارا باسما معه. وبعد مضي المحاضرة انصرف الجميع ومازلت اتساءل في نفسي: ما الذي جعله يلتحق بالدراسة في هذه السن؟ إلى أن جاء الأسبوع الذي بعده ورأيته في الصف الأمامي منتبها وحريصا على التحصيل إلى أن انتهت المحاضرة فطلبته ليأتيني في المكتب. وحين وصل رحبت به وأحضرت له كأس الشاي ولاطفته ببعض الاحاديث ثم سألته عن سبب دراسته بعد هذا العمر فبدأ حديثه متنهدا، وقال لي .. وعبارات الحزن في ثنايا كلامه وبدأ الحديث المنهك عن مرحلة صاحب فيها رفقاء سوء أغروه إلى أن انضم الى ناديهم العفن، الذي كانت نهايته أن أصبح فريسة لتعاطي المخدرات عندها بدأت عيناه تغرق بالدمع. فالخسارة كانت فشلا دراسيا وطردا من الأسرة وتشردا ومرحلة من الضياع استمرت سنتين إلى أن تم ضبطه وإحالته للعلاج من الادمان، يحدثني وهو نادم ويعترف بأن هذه المرحلة تمثل كابوسا في حياته. عندها احتضنته وقلت له: أنت شجاع الآن وأكثر نضجا، فالحمد لله الذي أعانك وحفظك من الهلاك ثم ودعته بعدما صبرته ثم قال لي: لولا فضل الله بي ثم بمن ساعدني وهو جار لي يعرف حالي لما كنت الآن طالبا في الجامعة، ثم طلب مني أن أحتفظ بهذه القصة وأن أذكرها بلا أسماء للعبرة، وقلت له كلنا معك وسوف أساعدك فيما تريد واعتبرني صديقا لك. عندها أدركت أن هناك حربا خفية مازالت تتنامى تدار حول شبابنا ربما يكون سببها غياب الأسرة، أو رفقة السوء، أو ربما الجهل والسذاجة إذا مازال العالم يحارب المخدرات بأنواعها ويحارب ويجرم المروجين منهم ويجعل عقوبتها تصل للإعدام كونها تشكل خطرا على الأفراد والمجتمعات، والأخطر اليوم ما أسفرت عنه التقنية والعولمة فصار التعاطي والترويج لما يسمى (للمخدرات الرقمية ) التي هي إفراز وسرطان مرعب ربما تسلل بهدوء نحو أفراد المجتمع وهو لا يعرف. ولعل من يسافر ويكثر الترحال يجد أن هذا الرعب متخف في أثواب وتحت أثواب ربما سميت بغير أسمائها، وتأتي الجهود الكبيرة لجنود مكافحة المخدرات وإداراتها في المملكة مشكورة ولو أن طرق وفنون الترويج كثيرة التلون ما يصعب اكتشاف أكثرها، إذا الدور الأبرز يأتي تكامليا من جميع المجتمع ومؤسساته وأهمها التعليم وورش العمل والتوعية من لدن إدارات مكافحة المخدرات. وأذكر مرة في القاهرة أن سائق التاكسي عرض عليّ بعد مراوغات مضحكة وبعد دردشات وألاعيب بعض أصحاب التكاسي إن كنت أرغب كما يقول: « تضبيط المزاج « وأن البانجو يعمل أحلى مزاج .. فقلت في نفسي: إن كان بعض أصحاب التكاسي يعرض ذلك فطلابه كثر ، وهنا الخطورة حيث إن النار تأتي من مستصغر الشرر ... والحقيقة أنها النار كلها. من هنا أرى أننا قبل أن نتحدث ونعاقب ونتهم المتعاطين فالدور على رجال الأمن في المنافذ خاصة في التعرف على أساليبها وطرقها والآليات الحديثة لترويجها ووضع الوسائل العلاجية للحد منها. فالحرب ربما على المملكة كونها محط نظر العالم اليوم، ويأتي دور الإعلام بكل وسائله ركيزة مهمة في التحذير وكشف جديده وحيله، ويأتي في المقابل دور الأسرة في القرب الشديد من أبنائها وأن أول مراحله الانعزال، وثانيها رفقاء السوء. فالعالم مازال أكثر يقينا أن نهضة الأمم تموت كون الإدمان رفيق الشيطان، وما دام شياطين الإنس في سباق لكسب الرفقاء فلن يكون المدمن والمغرر به أكلة سهلة ما دام طريق العلاج مبذولا وميسرا بكل طرق الستر ، ولن ينجح الشيطان ما دام ملائكة الخير ومجتمع الفضيلة باقين، حمى الله شبابنا ووطننا من كل إرهاب وحرب ظاهرة وباطنة. الأستاذ المساعد بجامعة الملك فيصل