لم يكن الراحل، الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود «رحمه الله»، يعمل على الصعيد الوطني فحسب، من خلال دفع المملكة - التي تولى مقاليد الأمور فيها في الأول أغسطس من العام 2005 - نحو المزيد من النهوض، وإنما أعطى مساحة مهمة من فكره وجهده وحركته لمنظومة مجلس التعاون الخليجي، التي كان يؤمن بها بقوة؛ سعيا في اتجاه الارتقاء بها الى مستوى الاتحاد الخليجي، وهو ما تجلى في دعوته الى بناء هذا الاتحاد بين دول المجلس الست خلال ترؤسه للقمة الخليجية التي استضافتها الرياض في التاسع عشر من ديسمبر من العام 2011، وهو ما شكل تطورا نوعيا في مسار هذه المنظومة التي انطلقت في الخامس والعشرين من مايو من العام 1981، استنادا إلى ما يربط دولها من علاقات خاصة وسمات مشتركة نابعة من عقيدتها المشتركة، وتشابه أنظمتها، ووحدة تراثها، وتماثل تكوينها السياسي والاجتماعي والسكاني، وتقاربها الثقافي والحضاري، وهي العوامل ذاتها التي تبرر الانطلاق الى خيار الاتحاد الذي يرى كثير من المراقبين أنه بات ضرورة في ظل ما يواجه إقليم الخليج بالتحديد ضمن النظام الإقليمي العربي من مخاطر وتهديدات، تتمثل في مستويين، أولهما: حالة السيولة في العلاقات مع الجار القوي إيران، والتي ما زالت العلاقات معها تتراوح صعودا وهبوطا مع بقاء حالة من الشكوك المتبادلة بين الجانبين، وثانيهما: صعود تنظيم داعش وتمدده في مساحة من الأراضي من الأنبار فى العراق الى حلب في سوريا، تعادل وفق تقديرات بعض الخبراء مساحة دولة عظمى مثل بريطانيا. رافد مهم ووفقا لما يقوله الدكتور عبدالعزيز بن عثمان بن صقر، مدير مركز الخليج للأبحاث، فإن فكرة الاتحاد تجسد طموح شعوب دول مجلس التعاون، وستكون في الوقت نفسه رافدا مهما للعمل العربي المشترك، خاصة بعد أن قطعت شوطا طويلا خلال 33 عاما تحقق فيه الكثير من الإنجازات والتحولات، وبالتالي هي في حاجة الى تجاوز التعاون الى الاتحاد، وفق ما تضمنته دعوة الملك الراحل والتي عكست هدفا نبيلا يدعو الى الوحدة وليس الى التفرق، وذلك من أجل خير الشعوب والحكومات معا، ويحفظ لدول المجلس استقلالها وسيادتها ومكتسباتها وهويتها وإرثها الثقافي والحضاري وأنظمتها السياسية، في إطار صيغة اتحادية مدروسة بعناية يرتضيها الجميع دون هيمنة دولة على أخرى أو نظام على آخر، لكنها تهدف إلى توحيد السياسة الخارجية والحفاظ على أمن دول المنطقة والدفاع عن سيادتها وحدودها بقوة مشتركة، وبناء اقتصاد قوي يعالج السلبيات ويحقق الطموحات ضمن كيان قوي قادر على التعامل مع الكيانات الكبرى في العالم. ولعل واحدا من أهم الدوافع التى استندت اليها دعوة الملك الراحل بشأن الدعوة الى الاتحاد الخليجي، حسب منظور الدكتور عبدالخالق عبدالله، استاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات، يكمن في محاولة احتواء تداعيات ثورات الربيع العربي التي انطلقت في العام 2011، وشعور المملكة العربية السعودية بالخطر الداهم المتمثل في الانعكاسات غير العادية من التحولات وقوى التغيير التى حركت الركود السياسي في المنطقة، مما أعطى إحساسا بخطر وشيك يتعين مواجهته على الأقل في مرحلته الأولى من خلال الإعلان عن الاتحاد الخليجي، فضلا عن شعور السعودية ودول الخليج بالقلق من أن طهران قد تستغل حالة عدم الوضوح وحالة السيولة الاستراتيجية وتداعيات الربيع العربي للقيام بالتمدد في النظام الإقليمي العربي المنهك أساسا في أطرافه وجوانبه العديدة، الى جانب أن الملك الراحل قال إن الوقت حان للانتقال الى منطقة أرقى من التنسيق والتعاون والتكامل في منظومة المجلس على نحو يخدم جميع الأطراف. مرتكزات صلبة وكما يقول الدكتور يحيى الزهراني - أستاذ مساعد في جامعة نايف للعلوم الأمنية -، فإن هناك أسبابا جوهرية تقود إلى دعم تحقيق الاتحاد وفق دعوة الملك الراحل، تتمثل في الانكشاف الاستراتيجي لبعض دول المجلس ومستقبل الطاقة الخليجية. خاصة بعد التراجع الحاد في أسعار النفط خلال العام الفائت، والذي ما زال مستمرا، ثم القوة الاقتصادية الضخمة التي تمتلكها والتي تحتاج الى سلطة أكثر مركزية في توظيفها تنمويا، الى جانب الانكشاف السكاني والخلل البنيوي (سياسيًّا، اقتصاديًّا) لبعض دول المجلس، وأخيرا الحاجة إلى تطبيق الوحدة بين شعوب المنطقة التي تتسم بخصائص متقاربة ثقافيا واجتماعيا وحضاريا. احتواء الأزمة مع قطر وفى سياق حرص الملك الراحل على بقاء منظومة مجلس التعاون قوية متماسكة وتجنيبها التعرض لأي مخاطر، فإنه سعى «رحمه الله» الى احتواء تداعيات الأزمة التي نشبت بين قطر من ناحية وكل من السعودية والإمارات والبحرين من ناحية أخرى، فهو لم يغلق الباب أمام الاتصالات المتوالية من القيادة القطرية بعد قرار سحب سفراء الدول الثلاث، واستقبل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في غير زيارة للرياض، قناعة منه بقدرة الملك عبدالله على إذابة الخلافات بحكمته البالغة ورؤيته الثاقبة في لملمة أي جراح قد تصيب الجسد الخليجي، وهو ما تحقق بالفعل - خاصة بعد أن أدرك أن قاعدة المخاطر المحيطة بإقليم الخليج والمنطقة العربية عموما تتسع، وهو ما يستوجب أن يتم التعاطي معها من منظور مجلس تعاون قوي متماسك، وهو ما تجسد في تقديمه خارطة طريق طرحها على اشقائه قادة المجلس الآخرين في قمة استثنائية بالرياض في السابع عشر من نوفمبر من العام المنصرم، وأفضت الى اتفاق بإعادة سفراء الدول الثلاث الى الدوحة، إيذانا بطي صفحة الخلاف الخليجي وفتح صفحة جديدة وفق البيان الرسمي الذي صدر في ختامها، ستكون بإذن الله مرتكزاً قوياً لدفع مسيرة العمل المشترك والانطلاق بها نحو كيان خليجي قوي ومتماسك، خاصة في ظل الظروف الدقيقة التي تمر بها المنطقة، والتي تتطلب مضاعفة الجهود والتكاتف لحماية الأمن والاستقرار فيها. وشكل هذا الاتفاق المرتكز الرئيس لانعقاد القمة الخليجية الخامسة والثلاثين بالعاصمة القطرية - بالدوحة - في التاسع من ديسمبر الماضي، والتي طالتها الشكوك قبل التئام قمة الرياض الاستثنائية، والتي جسدت استعادة التصورات الموحدة لمنظومة مجلس التعاون حيال مختلف القضايا الإقليمية ذات التماس المباشر مع دولها، بيد أن القرار الأهم لهذه القمة تمثل في وضع الأساس المرجعي للمصالحة المصرية القطرية عبر القرار الخاص بمصر، والذي أكد موقف قادة مجلس التعاون الثابت من دعمها ومساندة برنامج الرئيس عبدالفتاح السيسي المتمثل في خارطة الطريق، الى جانب التأكيد على المساندة الكاملة والوقوف التام مع مصر حكومة وشعباً في كل ما يحقق استقرارها وازدهارها، مشددا على دور مصر العربي والإقليمي لما فيه خير الأمتين العربية والإسلامية. ولا شك أن الملك الراحل لعب دورا بالغ الأهمية في الدفع باتجاه المصالحة بين القاهرةوالدوحة قبل ذلك بأيام، عندما وجه بيانا للقيادة المصرية ناشدها فيه التجاوب مع محددات اتفاق الرياض، والذي حرص "على وضع إطار شامل لوحدة الصف والتوافق ونبذ الخلاف في مواجهة التحديات التي تواجه أمتينا العربية والإسلامية"، مشيرا الى أنه "في هذا الإطار، وارتباطاً للدور الكبير الذي تقوم به جمهورية مصر العربية الشقيقة، فلقد حرصنا في هذا الاتفاق وأكدنا على وقوفنا جميعاً إلى جانبها، وتطلعنا إلى بدء مرحلة جديدة من الإجماع والتوافق بين الأشقاء، ومن هذا المنطلق فإنني أناشد مصر شعباً وقيادة للسعي معنا في إنجاح هذه الخطوة في مسيرة التضامن العربي، كما عهدناها دائماً عوناً وداعمةً لجهود العمل العربي المشترك. ويرى الخبراء أن حكمة الراحل الكبير عبر جهوده نجحت في تجاوز العام الأسوأ في مسيرة مجلس التعاون، وهو ما يستدعي ضرورة تأسيس آلية أو جهة أو سلطة تقوم بمعالجة الأزمات، بحيث يكون دورها استباقيا لمنع عدم استفحال المشاكل أو تفاقمها في المستقبل، خاصة أن وجود خلافات وتباين في وجهات النظر أمر وارد في أي مرحلة.