على الرغم من التمترس والاحتقان والشحن الطائفي الذي يشهده العراق، ولكن لا أحد يجاهر أو يعترف بأنه «طائفي»، فالجميع يبرئون أنفسهم من تهمة الطائفية، أو يحاولون إلصاقها بالآخرين، أو إنسابها إلى سلوك وتصرّف فردي أحياناً، أو إيجاد ذرائع ومبررات تاريخية «بادعاء المظلومية» أو «الحق في التسيّد» باسم الأغلبية، أو ادعاء امتلاك ناصية الدين والحفاظ على نقائه إزاء محاولات الغير للنيل منه أو من تعاليمه، الأمر الذي يخوّلهم ادعاء تمثيل الطائفة أو النطق باسمها، مع تأكيدات بملء الفم بنبذ الطائفية أو رميها على الطرف الآخر أو استنكارها، لكن دعاوى تحريم الطائفية وإنْ اقترن بعضها برغبات صادقة، إلاّ أنها تعود وتصطدم بوقائع مريرة وقيود ثقيلة، تكاد تشدّ حتى أصحاب الدعوات المخلصة إلى الخلف، إن لم تتهمهم، أحياناً، بالمروق والخروج على التكوينات والاصطفافات المتوارثة. ولعلّ بعض العلمانيين والحداثيين، انساقوا وراء مبررات أو تسويغات تقضي بانخراطهم في اطار الحشد الضخم للكتل البشرية الهائلة ما قبل الدولة أحياناً، وتحت عناوين الهوّية الطائفية، والتي تذكّر بعصر المداخن في أوروبا، التي تحرّكها زعامات مستفيدة من بعض الامتيازات أحياناً، بإثارة نزعاتها البدائية إزاء الغير أو الرغبة في الهيمنة، وذلك تحت شعار الواقعية السياسية والاجتماعية، وأحياناً بدعوى التميّز والهوّية، التي غالباً ما تكون على حساب الهوّية الوطنية الجامعة، التي بإمكانها احترام الخصوصيات والهوّيات الفرعية. ومثل هذا الأمر تفشّى في العراق وبشكل خاص ما بعد الاحتلال حيث كرّس مجلس الحكم الانتقالي الذي شكّله الحاكم المدني الامريكي بول بريمر صيغة المحاصصة الطائفية والإثنية، واستمر الحال من التجاذب منذ العام 2003 ولحد الآن، حتى وصلت البلاد إلى مشارف التشظي الطائفي والمذهبي والإثني والتمترس الديني، ولاسيّما بعد استيلاء تنظيم الدولة «داعش» على الموصل وتمدّدها باتجاه صلاح الدين والأنبار وأجزاء من كركوك وديالى، وصولاً إلى أطراف بغداد، وشملت هذه الموجة الجديدة استهدافاً مقصوداً ومكثّفاً لمجموعات دينية وفئات سكانية ومناطق جغرافية مثلما حصل للمسيحيين وكذلك للإيزيديين والشبك. وكانت الفتنة الطائفية قد اندلعت على نحو منفلت من عقاله في العام 2006 بعد تفجير مرقدي الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي حتى ضربت أطنابها باستهداف مناطق بكاملها، إضافة إلى فئات أخرى مثل الصابئة المندائيين والتركمان، التي اتخذت بُعداً تطهيرياً وإقصائياً وإجلائياً خطيراً، حيث اتخذ الصراع الشيعي- السني، لاسيّما في ظلّ هيمنة حكومة حزب الدعوة، بعده المعلن والمستتر وشاعت مظاهر التمذهب في أطر الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي خلق شعوراً مريراً بالتمييز. وبودي أن أشير إلى أن الطائفية تختلف اختلافاً جذرياً عن الطائفة، ذلك أن الأخيرة هي تكوين تاريخي وامتداد اجتماعي وإرث طقوسي تواصل عبر اجتهادات فقهية ومواقف نظرية وعملية، اختلط فيها ما هو صحيح ومنفتح، بما هو خاطئ وانعزالي أحياناً، لكنها تكوين أصيل وموجود وتطور طبيعي، وليس أمراً ملفقاً أو مصنوعاً، في حين أن الطائفية، هي توجّه سياسي يسعى للحصول على امتيازات أو مكافآت باسم الطائفة أو ادعاء تمثيلها أو إثبات تمايزات عن الطوائف الأخرى، حتى وإنْ كان بعضها فقهياً أو شكلياً، وأحياناً مفتعلاً وإغراضياً بهدف الحصول على المكاسب. وإنْ أدّى مثل هذا السلوك إلى التباعد والافتراق والاحتراب، ناهيكم عن زرع الأوهام حول «الآخر»، بصورة العدو أو الخصم، وبالتالي خلق حالة من الكراهية والعداء، في رغبة للإقصاء والإلغاء، بعد التهميش والعزل، مروراً بالتحريم والتأثيم، وإنْ تطلب الأمر التجريم أيضاً، فتراه لا يتورّع من التوّغل حيث تتحقق المصالح الذاتية الأنانية الضيقة، وإن تعارضت مع مصلحة الوطن والأمة. والغريب في القضية أن بعض هؤلاء المنخرطين في البغضاء الطائفية أو إشعال نار الحقد والكراهية لا علاقة لهم بالدين، فهم غير متدينين فكيف يتعصّبون للطائفة، إنْ كانوا غير متدينين أو حتى غير مؤمنين أصلاً، وهو ما أطلق عليهم عالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي إنهم «طائفيون بلا دين»، وبذلك تكون الطائفية عامل تفتيت وانقسام للمجتمع وواحداً من أمراضه الاجتماعية الخطيرة، إذا ما استشرت. لقد عانى العراق من هذه الظاهرة الطائفية الانقسامية، بسبب ضعف الثقافة الإسلامية من جهة وشيوع الكثير من الأوهام والترّهات إزاء الطوائف الأخرى، لاسيّما بالتعصّب والتطرّف والغلو، ويعود ذلك أيضاً إلى الموروث التاريخي، والقراءة المغلوطة للتراث الإسلامي بفرقه وفقهه وجماعاته المجتهدة، بل أن هناك حقول ألغام تاريخية يمكن أن تنفجر في أية لحظة إذا ما تم الاقتراب منها، فبعض مفاصل التاريخ بما فيها تاريخ الخلفاء الراشدين الأربعة وما بعدهم، يظلّ مسألة احتكاك مستمرة يريد البعض تغذية نيرانها باستمرار. وينسى هؤلاء أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (الفاروق) كان يردد: لولا علي لهلك عمر، لاسيما استشاراته في الكثير من القضايا القضائية وما يتعلق بالحُكم والسياسة ودلالاتهما وأبعادهما في ظرف ملموس. ولعلّ تأييد الإمام علي للخليفة عمر لم يكن بمعزل عن شعوره بالقربى الفكرية، لاسيّما في الموقف من العدالة وتجلّياتها على صعيد الدولة الإسلامية الناشئة والمجتمع الجديد، ووفقاً لكتاب الله «القرآن الكريم» وسنّة رسوله. كما أن ضعف الثقافة المدنية الحقوقية، ولاسيّما ثقافة الاختلاف وحق الرأي والرأي الآخر، وعدم قبول التعددية والتنوّع، أسهم في تكريس الطائفية السياسية. لقد نشأت المذاهب الفقهية الإسلامية متقاربة، وانتقلت بعض الأحكام من هذا المذهب إلى ذاك، تبعاً للظروف من جهة، ومن جهة أخرى للتأثيرات التي قد تقع عليها، فقد كان الفقيه والعالم الكبير أبو حنيفة النعمان تلميذاً نجيباً للفقيه الضليع الإمام جعفر الصادق، وهما قطبان لمذهبين أساسيين في العالم الإسلامي، المذهب الحنفي (السنّي) والمذهب الجعفري (الشيعي الاثنى عشري) حيث يشكل الأول أغلبية ساحقة، في حين يشكل الثاني أقلية متميزة، لاسيّما في بعض البلدان التي يكون فيها أكثرية، أما المذهب الشافعي والمالكي فلهما حضور في شمال أفريقيا وبلدان أخرى، في حين أن المذهب الحنبلي هو خامس هذه المذاهب الأساسية. وإذا كان الاصطفاف عقلياً واجتهادياً، فإن العلاقة التي ينبغي أن تسود بين المذاهب والطوائف ينبغي أن تكون هي الأخرى عقلية وسلمية وعلى أساس المشترك الإنساني والوطني والعروبي والإسلامي، وليس وفقاً لمصالح سياسية أنانية ضيقة، تريد دفع الأمور باتجاه الافتراق الذي لا عودة فيه ولا إمكانية لإعادة لحمته، ولعلّ بعض أمراء الطوائف سيكونون هم المستفيدين من هذا الانقسام والتناحر، طالما يؤمّن لهم زعاماتهم وامتيازاتهم، وحتى تفاهماتهم مع أمراء الطوائف في الأطراف الأخرى. بين الطائفية والمواطنة فرق كبير وشاسع، والمواطنة ليست طائفية حتى وإن انتمى المواطن إلى طائفة، إلاّ أن الأساس الذي يربطه بالمواطن الآخر هو الوطن والمواطنة والحقوق المتساوية، المتكافئة، والمشترك الانساني في إطار سيادة القانون، وإذا ما أقرّ الجميع ذلك وفق دستور ينظم علاقة المواطن بالدولة، فالأمر يقتضي أن تكون هي المرجعية وليس غيرها، وهو ما يتطلب التصدّي لمرتكبي الطائفية، طبقاً لقانون يحظرها ويعاقب من يدعو أو يروّج أو يتستر عليها، أو يتهاون في مكافحتها أو يخفي معلومات عنها وذلك بهدف تعزيز المواطنة وتعميق أواصر اللحمة الوطنية والوحدة الكيانية للمجتمع والدولة. وإذا ما اقترنت الطائفية والتمذهب بأفعال وأنشطة من شأنها أن تؤدي إلى انقسام في المجتمع ونشر الفوضى والاضطراب، واستخدام العنف والقوة والتمرد، وقد تقود إلى حرب أهلية، فإن ذلك يرتقي إلى مصاف جرائم أمن الدولة الكبرى، بما فيها جرائم الإرهاب، وقد تصل إلى جرائم الخيانة العظمى إذا ما ترافقت مع تحريضات لجهات خارجية وفقاً لأجندات أجنبية، خصوصاً في ظل استفزاز المشاعر الخاصة، ودفعها باتجاه عدواني ضد الآخر، الأمر الذي قد يصل إلى ما لا يُحمد عقباه!! ولتعزيز قيم المساواة والمواطنة وتطويق الطائفية سياسياً واجتماعياً بعد تحريمها قانونياً، ينبغي حظر العمل والنشاط السياسي، وتحت أية واجهات حزبية أو اجتماعية أو مهنية أو نقابية أو ما شابه ذلك، إذا كانت تسعى لنشر الطائفية أو المذهبية (التمييز الطائفي أو المذهبي)، بصورة علنية أو مستترة، خصوصاً بحصر الانتساب إلى ذلك المجتمع أو المنظمة أو الجمعية أو تلك، بفئة معينة، بادعاء تمثيلها أو النطق باسمها أو التعبير عنها. كما لا بدّ من منع استغلال المناسبات الدينية للترويج للطائفية أو المذهبية، بغية إثارة النعرات والعنعنات بين الطوائف وإضعاف مبادئ الوحدة الوطنية والهوّية الجامعة المانعة، التي أساسها الوطن والإنسان، ويقتضي ذلك أيضاً منع استخدام الطقوس والشعائر والرموز الدينية بما يسيء إلى الطوائف الأخرى، خصوصاً من خلال الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي والالكتروني، الأمر الذي يتطلب على نحو مُلح إبعاد الجيش والمؤسسات الأمنية ومرافق الدولة العامة عن أية انحيازات أو تخندقات طائفية بشكل خاص وسياسية بشكل عام. وإذا أردنا وضع اليد على الجرح فلا بدّ من حظر استخدام الفتاوى الدينية لأغراض سياسية، لاسيّما انخراط رجال الدين فيها، خصوصاً إذا كانت تتعلق بالشأن العام السياسي، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الجامعات والمراكز المهنية والاجتماعية والدينية والأندية الرياضية والأدبية والثقافية، التي ينبغي أن تكون بعيدة عن أية اصطفافات طائفية أو مذهبية. إن بناء دولة عصرية واحترام حقوق المواطنة كاملة، يقتضي وضع حد للطائفية السياسية تمهيداً لتحريمها ومعاقبة القائمين عليها أو الداعين لها أو المتسترين عليها، وهي الطريق الأمثل للوحدة الوطنية والهوية الجامعة- المانعة. مفكر وباحث عربي