كمبدأ أساسي تقع كوارث في كل زمنٍ ومجتمع، لكن تقدير المسؤولية فيها يعتمد على علاقة البشر بهذه الكارثة وتفاقم ضحاياها ولذلك قرر علماؤنا القاعدة الشرعية وهي أنّ - الإيمان بالقضاء والقدر يؤمِنُ به ولا يحتج به – ومن ذلك ألا يُبرّر إنسان ما ارتكبته يداه من جناية أو تقصير أو تجاوز عن فساد أو تمرير ما يضّر أو يُلحق الضرر أو يفاقمه بالأقدار، بل قد تمتد المسؤولية على كل تواطؤ، ولذلك توعّد عمر «رضي الله عنه» كقاعدة بأن قتيل صنعاء في عهده لو ثبت لديه تشارك كل صنعاء في قتله لاقتص منهم، وفي ذات المعنى تُعمم المسؤولية الهرمية من خلال قوله «رضي الله عنه»: لو عثرت بغلة في ارض العراق لسئل عمر لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر.. هنا ابتداءً يبرز لكم حجم التضليل الذي يمارسه بعض الوعاظ أو المتنفذين في التخفيف من المسؤولية المباشرة للفساد والتقصير الذي يؤدي لفقدان ضحايا وأطفال ومنشآت مادية والروح قبل ذلك هي قمة ما عظّمه الشرع وشدّد في حساب من يُلحق بها الأذى. ولقد وقفنا في كارثتنا الوطنية التي تمثلث في حريق جدة واستشهاد المعلمتين ريم النهاري وغدير كتوعة وإصابات بالغة منها في العناية المركّزة لمعلمة أخرى وعشرات الإصابات المروّعة لفلذات الأكباد وحالات مرضية وانهيارات عصبية عاشها الأهالي مع الضغوط النفسية الهائلة، وإذ نتقدّم لأهلنا بعظيم التعازي والمواساة لنقف تكريما لدور المعلمات الإنقاذي والذي تصدّره تضحية ريم النهاري وفداؤها للصغار حين انزلتهم من الدور العلوي وتمكّنت الغازات من خنقها فارتفعت شهيدة لربها شاهدة على قضيتها، رحمها الله ورحم أختها، وشفى كل المصابين. ولقد توقفت عند هذه الحادثة المروّعة وحادثة طالبات جامعة حائل الإحدى عشرة التي عصرت قلوبنا وفاتهم في الحادث الأليم ولهن الدعاء بالرحمة ولأهلهن خالص التعازي، ولفتت نظري التعاميم والقرارات التي صدرت بعد الحادثتين منها تأمين إسكان عاجل للطالبات خلال أسبوع ومنها في تبعات حريق جدة جولات للتحقق من وسائل السلامة للدفاع المدني وغير ذلك.. والسؤال الذي يطرح نفسه بكل قوة: أين هذا الاهتمام قبل الكوارث؟ ولماذا تتابع هذه التعاميم والتصريحات العاجلة والجولات بعد الكوارث ثم تختفي شيئاً فشيئاً، أو يختفي أثرها والقضية ليست مرتبطة بجهاز الدفاع المدني فقط، الذي يُقدّم منسوبوه شهداء وتضحيات مقدّرة وان كانت مراجعة برامجه التدريبية وتجهيزاته وتطوير أدائه قضية حيوية بصورة دائمة إضافة إلى الاستحقاق المادي الذي يحفز ويعوّض رجل الدفاع المدني جنباً إلى جنب مع تحفيز مسؤولياته لتحسين الأداء اكبر، لكن القضية الرئيسية أن ارتباط مسؤولية كارثة جدة قائم على عدد من الأجهزة في قطاع التعليم من إدارة التعليم الأهلي وإدارة الصيانة وغيرها من أجهزة الإشراف المباشرة إلى كل هرم الوزارة من تعليم منطقة مكةالمكرمة إلى مسؤولي الوزارة الكبار وكل جهة اختصاص «مناطقياً» ومركزياً، وصولاً لخطط الإنقاذ وقبل ذلك مسؤولية الأمانات للترخيص للمباني المدرسية ومخارج الإنقاذ ومن أعطى الترخيص للمستثمر والمستثمر في التعليم الأهلي شخصياً، كل هؤلاء لهم طرف في المسؤولية ولا يجوز أن تحمل المسؤولية لعبث بعض الأطفال في المدرسة المنكوبة، فهذا تبسيط وخرق لقواعد التحقيق الأساسية. إن هذا الإحباط الذي عاشه ويعيشه أهلنا في جدة والحجاز والوطن بأكمله والألم المزدوج الذي نشعر به عائد بالدرجة الأولى إلى فقدان الثقة بإمكانية قيام تحقيق فعلي ودقيق وسريع ينتهي لإدانة محدّدة للمتسبب كلياً أو جزئياً، ولماذا هذا الإحباط..؟؛ لأنه وبكل وضوح يرتبط بوضعية هذه القضايا على مساحة الوطن خاصة قضية سيول وغرق جدة لعامين التي حتى الآن لم تُقدّم عبرها لائحة اتهام شاملة ونهائية ومحاكمة ذات شفافية لتطبيق أحكام على المتسببين في موت وغرق ومرض مئات الضحايا وانهيار المشاريع، رغم تتابع تعقيبات المليك لكن الشعب لا يزال ينتظر ذلك البيان الاتهامي الشامل والتغطية الإعلامية للمحاكمات لأولئك المسؤولين المتسببين بالفساد الذي يتغلغل في كل كوارث الوطن وإتاحة الفرصة لذوي الحق الخاص بمقاضاتهم ووزاراتهم المسؤولة. وكل ذلك التراكم للمشاعر المغبونة في قضية جدة أعاد حضوره بين دخان وجثامين الضحايا وكأنه يقول إن المصاب الأول هو الأساس ويتساءل الجميع: هل غرق التحقيق..؟ وبالتالي فَلَتَ المسؤولون من العقاب؟! إنها الأسئلة الرئيسية التي تقود إلى المعالجة بمواجهة الملفات المعلقة وما أكثرها في قضايا الفساد ولا ندري من أين ستبدأ هيئة مكافحة الفساد.. فهل تكاثرت الضباع على خراشٍ ولا يدري خراش ما يصيد، أم أنّ الفساد عاد وتمحور بثوبٍ جديد، وربما صار يصيح بالناس «حي على الفساد» وهو يديره بوسائط وأدوات أُخرى.. إنها الحقيقة الكبرى.. فمتى يُبصر الإصلاح النور ويستشعره الناس في حياتهم اليومية قبل أن يستيقظوا على دورة جديدة لكارثة إنسانية؟!!