قد تكون المنافع البعيدة المدى لبرنامج نطاقات الجديد أكبر بكثير من التكاليف الاقتصادية القصيرة المدى، لأنّ إرغام القطاع الخاصّ المحلي على رفع الأجور والتخلي عن اعتماده المفرط على العمالة الوافدة الرخيصة، يُعدُّ خطوة حاسمة نحو موازنة سوق العمل على المدى البعيد، فهذه الخطوة في حال إنجازها، ستوفّر للسعوديين حوافز قوية للاستثمار في تحسين مهاراتهم من أجل الحصول على الوظائف المرتفعة الأجور في القطاع الخاصّ، الأمر الذي سيُعزز قدرتهم الشرائية وسيرفع معدّلات الإنفاق الخاص الاستهلاكي في المملكة. وفي المرحلة الراهنة، لا يمكن مقارنة الأجور أو الامتيازات التي تقدمها الشركات الخاصّة للمواطنين بتلك التي تقدمها مؤسسات القطاع العام الحكومي وشبه الحكومي، لذا يفضّل السعوديون العمل في القطاع العام الحكومي على العمل في القطاع الخاص. وطبقاً لبيانات مؤسسة النقد العربي السعودي، عمل في القطاع الحكومي المحلي 866,774 سعوديا عام 2009، أي 92 بالمائة من إجمالي المواطنين الناشطين في سوق العمل المحلية، وفي الحقيقة تحوّل القطاع العام إلى خيار السعوديين الأول بلا منازع لأنّ ساعات العمل فيه قليلة وبرامجه التقاعدية مريحة ورواتبه مرتفعة، لكنّ القطاع الخاصّ هو الذي يتعيّن عليه أنْ ينهض بالاقتصاد الوطني وأنْ يلبّي معظم احتياجات سوق العمل المحليّة، وفي عام 2009 بلغ متوسط أجر السعودي العامل في القطاع الخاصّ 3,137 ريالاً أيْ أقل بكثير من رواتب العديد من وظائف القطاع العام. وفي العام الجاري، رفعت الحكومة السعودية الحد الأدنى لرواتب القطاع العام إلى ثلاثة آلاف ريال وهناك رواتب تبلغ أضعاف هذا المستوى استناداً إلى طبيعة الوظيفة والمرتبة ومدّة الخدمة، لذا يتعيّن على القطاع الخاصّ مع مرور الوقت أنْ يدفع أجوراً مماثلة لرواتب القطاع العام، أو أعلى منها، لكي يتمكّن من اجتذاب العمالة السعودية وتشجيعها على تحسين مهاراتها ورفع إنتاجيتها، ومن شأن تحديد وفرض الحدّ الأدنى لأجور القطاع الخاصّ وجعل يوم العمل فيه رسمياً ثماني ساعات فقط، أنْ يساعد في زيادة أعداد السعوديين العاملين في القطاع الخاصّ، خصوصاً إذا توافقت هذه الإجراءات مع برامج تقاعدية مماثلة لتلك التي يتبناها القطاع العام. إنّ التخلي عن النسبة العامة لتوطين الوظائف بالقطاع الخاص وتبني نظام ديناميكي يفرض نسَب توطين مختلفة وأكثر واقعية، بحيث تستطيع غالبية الشركات تحقيقها، هو مبادرة ذكية من جانب الحكومة السعودية، ومع ذلك نعتقد أنّ إرغام القطاع الخاصّ على استيعاب المزيد من العاملين السعوديين ليس سوى جزء من الحلّ. فحتى في الماضي القريب، ظل نظام التعليم السعودي عاجزاً عن تخريج مواطنين يتمتعون بالمهارات الكافية لتولي وظائف مهمة في القطاع الخاص المحلي، ومازالت العلوم الإنسانية والفنون تُمثّل المجالات الرئيسة التي يختارها طلاب المملكة. فقد تخصص في هذه المجالات 41 بالمائة من إجمالي خريجي الجامعات السعودية في عام 2009. في المقابل، تحتاج المملكة إلى أخصائيين وفنيين وتقنيين ذوي كفّاءة في المجالات العلمية، كالعلوم الهندسية وعلوم الحاسوب والطب وسواها، وتعمل وزارة التعليم العالي على سدّ الفجوة القائمة في الكفاءات العلمية الوطنية لكنّها ستحتاج إلى سنوات عديدة كي تتمكن من تخريج ما يكفي من هذه الكفاءات الوطنية لتقليص حاجة اقتصاد البلاد إلى الكفاءات الأجنبية. وهناك أيضاً خطر البطالة المقنّعة التي تتمثل في توظيف المواطنين فقط من أجل تحسين البيانات الرسمية؛ أيْ دون أنْ يكونوا أطرافاً فاعلة في أنشطة الشركات التي توظّفهم، فتوظيف سعوديين ليسوا ذوي كفّاءة لمجرّد إدراج أسمائهم في قوائم الموظفين سيولّد، على المدى البعيد تحديات إنتاجية إضافية ولن يساهم في تصحيح أيّ خلل في سوق العمل، لذا ينبغي أنْ يتمثل الهدف البعيد المدى بتطوير نظام تعليمي متطور وسوق عمل قادر على الاعتماد على رصيد بشري وطني يتمتع بمهارات عالية، لكنّ تحقيق هذا الهدف يتطلب تحولاً جوهرياً في ثقافة العمل والتأهيل المهني على مستوى المجتمع السعودي ككل. وتعاني سياسات توطين الوظائف في منطقة الخليج من عيب كبير يتمثل في توظيف مواطنين يقبلون العمل في شركات القطاع الخاصّ لكنهم يخططون في الغالب، لاكتساب الخبرة والمهارات ثمّ التخلي عن الشركات التي استثمرت في تدريبهم وتأهيلهم، عند توافر أول فرصة عمل أخرى بأجر أعلى، لذا يتعيّن على هذه العقلية أنْ تتغيّر لأنها قلّصت الجهود المبذولة لتدريب وتأهيل المواطنين في مواقع العمل الخاصة. ينبغي على سعودة الوظائف أن تأخذ في الحسبان صعوبة إيجاد مواطنين مؤهلين لتولي وظائف محدّدة. ففي الوقت الراهن، يشغل السعوديون أكثر من ثلاثة أرباع المواقع الإدارية ومعظم الوظائف المكتبية والتقنية المتعلقة بمجالات العلوم الإنسانية. في المقابل، لا ينشط السعوديون كثيراً في عدد من المجالات المهمة - فهناك القليل من مساعدي المهندسين أو العاملين في التصنيع أو الصناعات الكيميائية والغذائية، أو حتى في قطاع البيع بالجملة وبالتجزئة، وطبقاً لبيانات المصلحة العامة للإحصاءات والمعلومات، يشغل السعوديون فقط 14,2 بالمائة من وظائف مساعدي المهندسين و 19 بالمائة من وظائف التصنيع والصناعات الكيميائية، لكنْ خطة التنمية 2010- 2014 تتوقع منح السعوديين جُلّ فرص العمل الجديدة حتى في هذه المجالات، بما في ذلك، مثلاً 85 بالمائة من فرص العمل الجديدة لمساعدي المهندسين، وبالتالي، تبدو هذه التوقعات غير واقعية لأن تزويد سوق العمل بمثل هذه الكفاءات يحتاج إلى وقت لأنه يتطلب الاستثمار في تحسين نوعية التعليم الأساس بما في ذلك التعليم العام (المرحلة الثانوية)، لذا نوصي بخفض سقف هذه التوقعات تدريجياً لإعطاء نظام التعليم وثقافة العمل الوقت الكافي لكي يتحولا بسلاسة وأكثر فاعلية، وخلافاً لذلك قد تواجه العديد من الشركات تكاليف متزايدة لمواردها البشرية وانخفاضات حادّة في إنتاجيتها لأنّ الوافدين ذوي الكفاءة سيُضطرون إلى إنجاز مهماتهم، ومهمات نظرائهم السعوديين غير الأكفاء؛ الأمر الذي قد يدفع العديد من شركات القطاع الخاص السعودي إلى الإحجام عن توسيع أنشطتها. خبير اقتصادي Twitter : @TurkiAlHugail