منطقة القبائل الباكستانية كانت عصية على جيوش الإمبراطورية البريطانية، ولذلك ظلت خالية عن أي تواجد عسكري طوال فترة الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية، ولما برزت باكستان إلى حيز الوجود تعهد منشئها محمد علي جناح لرجال القبائل بعدم إقحام القوات المسلحة في المنطقة، وكما أن أحداث 9/11 بتبعاتها غيرت مسار الأحداث وألقت بظلالها على كافة دول العالم، كان لباكستان منها نصيب، حيث اضطرت الحكومة بفعل الضغوطات الأمريكية المكثفة بإجراء عمليات عسكرية متتالية في المنطقة بحثا عن عناصر القاعدة وفلول طالبان، وبهذه الحيلة تمكنت السلطات الباكستانية من إحكام سيطرتها على وزيرستان الجنوبية، وهي الآن بصدد البحث عن قواعد لها في وزيرستان الشمالية، ورغم أن السلطات الباكستانية أوشكت على حل عادل وعقلاني لمشكلة القبائل في أعقاب اتفاقية "شكائي" في شهر مارس الماضي والتي وقعت عليها حكومة باكستان متمثلة في حاكم إقليم سرحد، ووقع عليها الزعيم القبلي الراحل "ن محمد" المناصر للأجانب الموجودين في المنطقة الذي لفظ أنفاسه الأخيرة نتيجة هجوم صاروخي أمريكي. هذه الاتفاقية كانت كفيلة بأن تضع الحرب في المنطقة أوزارها ويعم الأمن والسلام فيها، بيد أن الولاياتالمتحدة كانت تتحفظ على بعض بنود الاتفاقية، وأصرت (كرستينا روكا) نائبة الخارجية الأمريكية في آخر زيارة لها لباكستان ولقائها الرئيس مشرف، على ضرورة التعامل مع ملف القبائل بحزم شديد، وقصف المواقع المشبوهة إذا لزم الأمر، وهو ما تم لا حقا، حيث قصفت القوات الباكستانية المسلحة منطقة (مانكراي) الشهر الماضي، مما أدى إلى مقتل عشرين شخصا وإصابات أخرى تجاوزت المائة، وادعى الناطق باسم القوات الباكستانية الجنرال شوكت عزيز سلطان أن القصف استهدف تجمعا للعناصر الأجنبية التي كانت تخطط للهجوم على القوات الباكستانية ومنشآتها في المنطقة، على حين أكد النائب البرلماني عن المنطقة مولانا معراج الدين خان أن القتلى جلهم كانوا من رجال القبائل، وكانوا يقرأون القرآن بعد صلاة الفجر، وأضاف: كان من بين القتلى والجرحى عدد غير يسير من الأطفال وتوعد الحكومة بالكف فورا عن اللعب بالنار في منطقة القبائل وإلا تكون الخيارات أمام القبائل مفتوحة على كل الاحتمالات، وقال: يمكن جدا أن نمد يد العون إلى حكومة كابول في كفاحنا ضد الظلم الذي تمارسه القوات الباكستانية علينا. على صعيد آخر قامت نقابة المحامين بإقليم سرحد بتشكيل لجنة لتقصى الحقائق ضمت حقوقيين كبار البالغ عددهم (5) محامين، وقامت اللجنة بعمل جولة ميدانية للمنطقة برفقة مولانا معراج الدين وثلة من العلماء ورجال الدين إضافة إلى عمداء القبائل وممثلين عن الأحزاب السياسية. وتوجهت اللجنة إلى المنطقة في الأسبوع الأول من أكتوبر الجاري، وعند وصولها إلى منطقة (جندولة) التي تشكل البوابة إلى المنطقة ومدخلا إليها، لم تسمح لها القيادة العسكرية المحلية بتخطي الشريط الحدودي لمنطقة القبائل، مما اضطرها إلى مزاولة مهامها في (جندولة) فلبثت فيها أياما وليالي وقابلت عددا من عمداء القبائل وعامة الناس إضافة إلى المسجونين في السجن المحلي، ثم أصدرت تقريرها الذين احتوى (5) صفحات، وتم توزيعه على الجرائد والمجلات والمنظمات الحقوقية، واستشاط لها حاكم إقليم سرحد غضبا حيث أصدر بيانه الذي تضمن استنكاره على تشكيل هذه اللجنة لتقصى الحقائق مؤكدا أن الحكومة هي المخولة نظاما وقانونا لتقصى الحقائق ولا يحق لأي جهة خاصة كائنا ما كانت أن تتولى هذه المهمة، وأضاف البيان الذي أصدره مكتب الحاكم أن المعلومات التي وردت في تقرير اللجنة عارية عن الحقيقة وقال: إن الدوائر المختصة في حكومة سرحد على أهبة الاستعداد لتلقي أي سؤال أو اعتراض بهذا الخصوص. وذكر تقرير اللجنة الذي نشر نصه بالجرائد الباكستانية، أن رجال القبائل العاديين تعرضوا لعملية إبادة جماعية، حيث لوحظ أن معظم القتلى كانوا من المدنيين والقبائل أما العناصر الأجنبية فالقتلى في صفوفهم يعدون على الأنامل، وعرج التقرير على عملية القصف العشوائية التي نفذتها السلطات الباكستانية في التاسع من سبتمبر الماضي بمنطقة (خوله كارمه) وأسفرت عن مقتل 52 شخصا وقال: إنهم كانوا من القبائل ولم يكن من بينهم أي أجنبي، ولما احتج عمداء القبائل على ذلك ونددوا به، وعدت السلطات الباكستانية أنها سوف تتخذ الإجراءات اللازمة ضد من نقل المعلومات المغلوطة إليها. وأكد صحفي محلي للجنة تقصى الحقائق الحقوقية أن جمعا غفيرا من الناس تجمعوا لقراءة الفاتحة على أرواح الضحايا، لكن مكان تجمعهم قصف، وأضاف الصحفي الذي طلب عدم الإفصاح عن هويته أنه يظن أن السلطات الأمريكية راقبت هذا الاجتما ع وترصدته عبر الأقمار الصناعية Satellite فظنت أنه اجتماع للعسكريين الأجانب وأبلغت السلطات الباكستانية ثم كانت الكارثة.. وقد أكد خبراء الاتصالات ومهندسي الصوت هذه الحقيقة. وقالوا للجنة تقصي الحقائق المعنية بحديثنا أن السلطات الباكستانية ركبت في المنطقة أجهزة التنصت عالية الكفاءة التي زودتها السلطات الأمريكية، وهذه الأجهزة تنقل الأصوات والصور للسلطات الأمريكية عبر الأقمار الصناعية. وأشار تقرير لجنة تقصي الحقائق إلى القنبلة اليدوية التي انفجرت في يد رجل قبلي في موقف السيارات في (وانا) وظنت السلطات الباكستانية أنه هجوم من العناصر الأجنبية فاطلقت النار بشكل عشوائي عنه نتج 8 قتلى وأصيب أحد الأطباء بإصابات خطيرة وتضمن التقرير قائمة بالرجال والنساء والأطفال الذين لقوا مصرعهم في قرية (مكين) في الهجوم. ونص التقرير على أن القصف كان عشوائيا حيث استهدف المنازل والمتاجر والبيوت السكنية والعيادات الصحية، حتى المساجد لم تسلم من القصف، والسلطات الباكستانية فرضت في المنطقة قانونا حظرت فيها بموجبه مع مزاولة الأنشطة السياسية و لذلك لم تخرج لحد الآن أي مظاهرة احتجاجية، والصحفيون ممنوعون من الدخول في المنطقة، لكي لا يطلع المجتمع الدولي على الرأي الآخر حيال ما يجري في المنطقة. وقد حاول كما نص التقرير الصحفيون التابعون لجرائد محلية ودولية تغطية أخبار العمليات العسكرية الجارية في المنطقة ولكن السلطات الباكستانية حالت دون ذلك، لكي يبقى المتحدث باسم القوات المسلحة الجنرال شوكت سلطان هو الشخص الوحيد لنقل أخبار المنطقة وتغطيتها. وأضاف التقرير: لقد أصدرت السلطات الباكستانية أوامرها لكافة المستشفيات والمستوصفات في المنطقة بعدم معالجة الجرحى وطلبت منها تسليمهم للسلطات وأطلعت لجنة تقصي الحقائق على قرار السلطات بهذا الخصوص وفيه (ممنوع معالجة أي جريح ذكرا كان أم أنثى طفلا كان أو رجلا أو مسنا، ممنوع تسجيله للمعالجة وللإسعافات الأولية، بل يجب تسليمه للسلطات) وأشار التقرير إلى موقعة (لادا) التي حدثت يوم 4/4/2004م حيث ظلت جثث القتلى في العراء أياما وليالي ولم يتجرأ ذووهم على نقلها أو دفنها خوفا من أن تمتد إليه أيدي الاعتقال بذريعة أنه إرهابي، وقد حاول المواطن القبلي (رادي غول) أن يتسلم جثمان شقيقه (بائنده غول) الذي قتل في هجوم مباغت للسلطات الباكستانية، فاعتقلته السلطات الباكستانية و يجري الآن التحقيق معه في سجن (تانك). وأضاف التقرير أن السلطات الباكستانية تقوم برش بعض المبيدات والمواد الكيماوية على جثث القتلى إمعانا في تشويه صورتها حتى لا تعرف هويتها وتعلن السلطات أن المقتول أجنبي وافد من القاعدة. ولعل أهم نقطة عرج عليها تقرير لجنة تقصى الحقائق أن المواجهات التي تتم بين السلطات والأجانب غالبا ما تكون فيها خسائر من الطرفين غير أن الحكومة الباكستانية لا تذكر خسائرها، في المواجهات التي تمت بين الطرفين في مناطق (كاروان) (ماننده) (كانيغرام) و (كارمه) تجاوزت ضحايا السلطات 120 شخصا بيد أن السلطات لم تشر إلى ذلك ولو إشارة عابرة على حين ضخمت خسائر الجهة الأخرى، وبعد التغيير الذي تم في الحقائب الوزارية في مجلس الوزراء عشية استلام شوكت عزيز رئاسة المجلس، سحبت الداخلية من فيصل صالح حيات الذي ينحدر من إقليم البنجاب إثر اتهامات وجهت إليه بفشله في أداء المهام الموكلة إليه، وعين آفتاب أحمد خان شيرباو وزيرا للداخلية قيل أن الأوضاع الأمنية المتدهورة وبخاصة في منطقة القبائل سوف تتحسن خاصة أنه يتكلم البشتو وهي اللغة السائدة في المنطقة القبلية وبالفعل شكل المذكور لجنة رباعية برئاسته لمعالجة الوضع الشاذ السائد في منطقة القبائل، واستطاع أن يوقع الخلاف بين عمداء القبائل وتمكن من شراء الذمم وأعطاهم قائمة بأسماء المطلوبين من المحليين والأجانب وتضمنت القائمة 216 شخصا، وتعهد العمداء الموالون للحكومة ببذل ما في وسعهم في هذا المضمار. ولكن الحرب لما وضعت أوزارها، والسياسة التي يعتمدها "شيرباو" وزير الداخلية الجديد هي التعامل مع كل عشيرة على انفراد، وسياسية "فرق تسد" وهي بلا شك سوف تسهل له ما كان صعبا لسلفه، على سبيل المثال، عندما كان يوزع "شيرباو" قائمة بأسماء المطلوبين لكل عشيرة، استثنى من ذلك عشيرة "ياركل خيل" التي ينحدر منها المناضل القبلي الشهير "نيك محمد" رغما عن اعتقاد السلطات الباكستانية بأنها القبيلة العصية عليها، مما يعني أن شيرباو يتعمد إقصاءها والعمل على بعد الشقة بينها وبين القبائل الأخرى. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل هذه السياسة ستؤتي أكلها؟ الجواب نحيله للأيام القادمة ولكن ما نستطيع أن نقوله بكل تأكيد هو أن معضلة القبائل لن تحل بفوهة البنادق والمفاوضات الجادة غير النابعة عن الضغوطات الخارجية وحدها ستؤدي إلى الحل، ولكن يبدو أن الضغوطات الأمريكية المكثفة تضطر الحكومة الباكستانية للتعامل مع ملف القبائل بالبندقية وبالعنف الذي سيولد عنفا أقوى وأشد، وسوف تزداد المعضلة تعقيدا. لقطات من هجوم الجيش الباكستاني على الأجانب الذين يتهمون بعلاقتهم مع تنظيم القاعدة رجال الجيش يعتقلون أحد المشتبه بهم