ان التباين في فترات الاستقلال السياسي وفي القدرات الاستثمارية والطاقات الاستيعابية ثم في التوجهات الحقيقية للتنمية الصناعية قد انعكس على الواقع الصناعي السائد حاليا في العالم العربي بالتفاوت النسبي فيما بين الاقطار المختلفة، غير ان هناك خصائص متعددة ان اختلفت من قطر الى آخر من حيث النسب فانها تلتقي من حيث الاتجاهات، ولذلك يلاحظ عدد من الخصائص المشتركة للقطاع الصناعي في العالم العربي، منها: اولا: انخفاض حصة القطاع الصناعي التحويلي في الناتج المحلي الاجمالي على مستوى العالم العربي بمجمله. والذي نخلص منه الى ان الاهمية النسبية للقطاع الصناعي التحويلي على مستوى مجموع الاقطار العربية كلها قد ازدادات خلال العقدين الاخيرين ببطء واضح، ويبدو ان الركود النسبي في تغير هذه الاهمية في حالة مجموعة الدول النفطية كان مسؤولا بشكل مباشر عن هذه الواقع، حيث ان حصة الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الاجمالي لهذه المجموعة قد ازدادت من حوالي 8% في عام 1985م الى حوالي 9% في عام 1995م وفي المقابل فان الحصة المذكورة في حالة الدول غير النفطية الاقل قدرة من حيث الموارد المالية قد ازدادت من حوالي 13% الى حوالي 15% في العامين المذكورين على التوالي، ويعود ذلك الى ان الاقطار النفطية قد مرت بتقلبات شديدة في ايراداتها المتأتية من صادرات النفط الخام مما انعكس على استثماراتها الصناعية بشكل ملموس، ففي سنوات الرخاء (نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات) اندفعت هذه الاقطار نحو انشاء المزيد من المشروعات الصناعية المتقدمة تكنولوجيا والكثيفة راس المال والكبيرة الحجم، والتي يعتمد في تشغيلها بنسب عالية على المستلزمات المستوردة من خبرات فنية وقطع غيار ومواد اولية. ولكن بعد تراجع ايرادات النفط منذ منتصف الثمانينات اصبح من الصعب توفير هذه المستلزمات بمستوى الحاجات الحقيقية لبلوغ الطاقات الانتاجية التصميمية، مما اسهم في تعطل جزء من هذه الطاقات، وحيث ان الاسواق المحلية في الاقطار العربية تتسم بالضيق النسبي بشكل عام، فقد ولد هذا المزدوج (عدم توفير مستلزمات التشغيل كافة من جهة وعدم كفاية الطلب الفعلي من جهة اخرى) ركودا نسبيا في تنمية القيمة المضافة التحويلية في بعض الاقطار بينما في المقابل لم تخضع بعض الاقطار لتقلبات مشابهة وبالمعدلات والفترات نفسها، كما ان الامكانيات المتواضعة لهذه الاقطار لم تسمح لها بتوسعات صناعية كبيرة في فترات قصيرة نسبيا، مما جعل تنمية استثماراتها الصناعية متناسبة الى حد ما مع قدراتها التشغيلية، ومع ذلك فان هناك تدهورا في بعض الحالات التي تميزت بأعلى المساهمات النسبية خلال الفترة 1985-1997م مثل الاردن والمغرب، بينما في المقابل حدثت تغييرات ايجابية ملموسة خلال العامين المذكورين في حالات مثل: تونس ومصر ودولة الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية واخيرا ليبيا. ومن جانب آخر فان هناك تفاوتا كبيرا في النسب الواردة بين الاقطار الاقل نموا، مثل جيبوتي من ناحية وتونس والمغرب ومصر من ناحية اخرى، ويعد هذا التفاوت - الذي يتجاوز اربعة اضعاف - عائقا في سبيل تكثيف الارتباطات الانتاجية بسبب عدم التكافؤ التبادلي بين الاقتصادات الاكثر نموا التي تتمتع ببعض الفوائض والاقتصادات الاقل نموا التي تعجز عن تغطية طلبها المحلي, ومرد ذلك العجز ضمن المجموعة الاخيرة الى ضآلة الفوائض التصديرية وعدم تنويع الانتاج الصناعي والاعتماد الكبير على المستلزمات المستوردة، هذا فضلا عن غياب منطقة تنافسية حرة تتميز بوجود تكنولوجيا متطورة للمعلومات وبتبادل حر لها. ثانيا: ان الركود النسبي او الهبوط الملموس في الاهمية النسبية للقطاع الصناعي التحويلي في بعض الاقتصادات العربية يعود الى التشبع السريع الذي تبلغه الاقتصادات الاقل نموا او الاكثر اختلالا، ويتجسد هذا التشبع في ضيق الطاقة الاستيعابية لما هو متاح من طاقة انتاجية تحويلية، وهو ما يتولد عادة عن صعوبات التصدير الى الاسواق الخارجية وعن عوامل متعددة في الداخل تتعلق بكل من الطلب السوقي النهائي والطلب على السلع الانتاجية، ففيما يخص الطلب السوقي النهائي يعود انخفاض هذا الطلب غالبا الى الواقع السائد لمتوسط نصيب الفرد من الدخل القومي الذي هو منخفض اصلا في عدد من الاقطار العربية، وذلك فضلا عن تقلب هذا المتوسط وبمعدلات مفاجئة احيانا في الاقطار العربية كافة تقريبا. ويبدو ان تقلب الدخل شديد من فترة الى اخرى وان التفاوت واسع بين مجموعتي الاقطار النفطية والاقطار غير النفطية، واذا ما قارنا الحقائق المتاحة حول متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي خلال الفترة 1985-1995م يلاحظ ان اتجاها عاما للهبوط ساد معظم الحالات. وقد شمل هذا الاتجاه الاقطار البترولية حيث استمر هذا الاتجاه حتى اواخر القرن العشرين عندما استعادت اسعار النفط الخام بعض عافيتها بعد الاتفاق الذي تم مع عدد من المصدرين الرئيسيين خارج منظمة الاقطار المصدرة للنفط (اوبك) فشهد عاما 1999و 2000م زيادات ملموسة في هذه الاسعار وذلك منذ اوائل شهر مارس 1999م وهكذا فان مقدار التفاوت بين الدول العربية الأعلى والأدنى دخلا قد ازداد من حوالي 61 مرة في منتصف الثمانينات الى اكثر من 210 مرات في منتصف التسعينيات. إن واقع الدخل للعالم العربي بانخفاضه (النسبي) العام وبتقلبه (السنوي) الشديد وبتفاوته (المقارن) الواسع لا يضمن الطلب الكافي والضروري لرفع الكفاءة الحدية للاستثمار الصناعي، وبذلك تتخلف الطاقة الاستيعابية عن الطاقة الانتاجية في كثير من المواقع، ويظهر في الوقت نفسه عجز العديد من النشاطات الصناعية التحويلية حتى عن تلبية جزء يسير من الحاجات الاساسية للسكان في الاقطار العربية، وهو ما يتجسد في التنويع الكبير والتزايد المستمر لواردات هذه الاقطار من مختلف المنتجات الصناعية بما فيها تلك التي توجد لها منشآت كبيرة احيانا، كما هو الحال بالنسبة الى السكر والاثاث والورق والكيماويات الاساسية ووسائل النقل والاتصالات. وعلى الرغم من النمو الملموس في قطاع السلع خلال السنوات الاخيرة، مثل الجلود والورق والمطبوعات والكيماويات الصناعية ومصافي النفط والمطاط واللدائن والحديد والصلب وسائر الاصناف غير المعدنية، فإن انخفاض نسبة المدخلات والمخرجات الصناعية (المحلية والإقليمية) قد اسهم في تضييق مجالات الطاقة الاستيعابية، وهو ما يعد امرا منطقيا مع تزايد الاعتماد على الموارد التكنولوجية (المكائن والمعدات والأدوات والأساليب والنظم) المستوردة من الاقطار الصناعية المتقدمة، وخاصة ان وتائر الصناعات التحويلية قد اصبحت مرتبطة جوهريا بعمليات التحول نحو الانماط الأعلى كثافة لرأس المال والاكثر اعتمادا على اتمتة التشغيل والسيطرة، وبذلك فان التطور التكنولوجي المصاحب للتنمية الصناعية في العالم العربي قد استتبع حالات من العزلة النسبية (او شبه العزلة) عن الاقتصادات المحيطة بسبب الارتباط (او الاندماج) الاعمق بالمناشىء الخارجية للتجهيزات الراسمالية، وبالنتيجة كما بين احد الباحثين في بحث قياسي له:(ان الانتاج الصناعي الحديث صدر اكثر مرونة لمستلزمات التشغيل المستوردة مما هي لتغيير حجم الاستثمار الصناعي). وهكذا يلاحظ وجود انخفاض عام في معدل التصنيع المحلي وخاصة بالنسبة الى النشاطات التحويلية الاكثر اعتمادا على التكنولوجيا المتطورة، وذلك بسبب ارتفاع نسبة مستلزمات الانتاج الى قيمة الانتاج، اي بعبارة اخرى انخفاض نسبة القيمة المضافة التحويلية الى قيمة الانتاج ففي عام 1995م كانت النسبة الاخيرة بين 21% في سوريا و 46% في قطر. بناء على ما سبق فان نشوء الصناعات الحديثة بسبب انخفاض معدلات تكاملها الانتاجي لا يسهم كثيرا في خلق الطلب على منتجاتها او في توليد رؤوس الاموال الانتاجية المباشرة الكافية لتغطية متطلبات التشغيل والتطوير للصناعات القائمة. ثالثا: تنتشر في اغلبية الاقطار العربية مجموعات متكررة تقريبا من الصناعات التحويلية وخاصة الغذائية والنسيجية والانشائية والكيماوية و(البتروكيماوية) والتجميعية (الاستهلاكية المعمرة) غير ان هناك تفاوتا ملموسا في نسب مساهمة الاقطار المعنية على مستوى القطاع الصناعي التحويلي بشكل عام وكل من الفرع او النشاطات التي يتضمنها هذا القطاع بشكل خاص ففي عامي 1985م و 1995م على التوالي كان مجموع نسب مساهمات اربعة اقطار (هي المملكة العربية السعودية والجزائر ومصر والمغرب) في تزايد من حوالي 61% الى 63% تقريبا واذا ما اهملنا كلا من الصومالوالعراق واليمن وجيبوتي فان الفجوة بين البلد الاكثر مساهمة والبلد الاقل مساهمة في العامين المذكورين على التوالي اتسعت من 21.3 الصفر الى 23.2-0.1 . وعلى مستوى النشاطات التي يتضمنها القطاع الصناعي التحويلي، وباعتماد مؤشر الانتاج الكلي للعالم العربي، فقد اسهمت مصر في منتصف التسعينات بنسب عالية في انتاج السكر والسجائر والمنسوجات القطنية وصوف الغزل ونترات الامونيوم والحديد الزهر والصلب الخام. واذا ركزنا على المساهمات النسبية الكلية لعدد محدود من الاقطار المنتجة الرئيسية نلاحظ ان معظم انتاج السكر الخام يأتي من مصر والسودان والمغرب والسكر المكرر من المغرب ومصر والجزائر والزيوت من مصر والجزائروتونس والسجائر من مصر والجزائروسورياوتونس والكبريت المصنع من المملكة العربية السعودية والكويتوالعراق والاثيلين من قطروالجزائر، والشاحنات من المغرب والجزائر ومصر وتونس، والساحبات الزراعية من الجزائر ومصر وسوريا. ويعود هذا التمركز الى عوامل عديدة اهمها: ضيق المعلومات بشأن الموارد الاقتصادية والطاقة الاستيعابية والفرص الاستثمارية، وهذا ما استتبع ضعفا واضحا او (عاما) في الوعي الاستثماري وتفضيل استثمار الموارد المالية في المؤسسات الاجنبية الاكثر ربحية او (أمانا) على توجيهها نحو المشروعات الصناعية المحلية او المشتركة وضآلة الخبرات الضرورية لانتقاء التكنولوجيا الاكثر كفاءة ولتسويق المنتجات الصناعية في الاسواق العالمية، ونقص المختبرات والمكتبات والمعلومات التي تعد من المتطلبات الضرورية لتطوير كفاءاتهم العلمية التطبيقية وهذا ما تؤكده تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة. ونتيجة لذلك يلاحظ ان هناك تزايدا مستمرا لتسرب الموارد المالية والبشرية الى الاقطار الصناعية المتقدمة وإهمالا كبيرا لتحويل الموارد الطبيعية الى اصول استثمارية مربحة في مجالات زراعية وتعدينية وسياحية متنوعة. وهكذا فان التمركز الصناعي في ظل تشتت الاسواق المحلية والاندماج بمصادر التكنولوجيا الخارجية وقلة الفوائض التصديرية لم يحقق غالبا الميزة التنافسية وقد اسهم مبدأ سيطرة المنتج احيانا في عدم الافادة من هذه الميزة خاصة اذا ما قارنا النشاطات المعنية بالنشاطات المنافسة للاقطار الصناعية المتقدمة. وفي خضم الارتفاع النسبي الكبير للقيمة المضافة للصناعات الاستخراجية ضمن الناتج المحلي الاجمالي لعدد من الدول العربية كما يبدو ان سمة التمركز بالنسبة الى هذه الصناعات اكثر وضوحا (او بروزا) مما هي بالنسبة الى الصناعات التحويلية، حيث ان حصة المملكة العربية السعودية من مجموع القيمة المضافة للصناعات الاستخراجية العربية قد ازدادت من 27.3% في عام 1985م الى 42.2% في عام 1995م. وان خمسة اقطار رئيسية (هي المملكة العربية السعودية والاماراتالمتحدةوالجزائر وليبيا ودولة الكويت) قد زادت نسبة مساهمتها الكلية من مجموع القيمة المضافة للصناعات الاستخراجية العربية بحوالي 8% خلال العامين المذكورين، وفي المقابل هبطت حصص البحرينوتونس والمغرب وموريتانيا وسوريا على الرغم من انخفاضها النسبي اصلا. وفيما يخص النشاطات الاستخراجية المختلفة فان ظاهرة التمركز بارزة في الحالات كافة، ففي عام 1995م اسهمت المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة ودولة الكويت وليبيا بحوالي ثلاثة ارباع انتاج النفط الخام، وتسهم اقطار معينة بكل او باغلبية انتاج العالم العربي من بعض المواد تقريبا، مثل العراق بالنسبة الى الكبريت والاردن بالنسبة الى البوتاس والمغرب بالنسبة الى النحاس والفلورايت والكوبالت والرصاص.