من ينسى سبب وجوده ويتبرأ منهما ويستحي أن يذكرهما أو ينسب إليهما، فمن أقبح مظاهر العقوق من يتنكر لوالديه. وإن كانا فقيرين أو أميّين فما العيب في ذلك؟!! ليتذكر كل من عق والديه بالخجل منهما ومن مهنتهما أن هذين الأميين الفقيرين، هما من أوصلاه إلى هذا المستوى وتلك المكانة الرفيعة علمياً واجتماعياً بدمهما قبل عرقهما. لا شيء فوق بر الوالدين حتى الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام النفوس الكريمة الأبية تأبى الإجحاف والتنكر لمن كان سبب نعمتها، أو قدم إليها معروفاً مهما كان حجمه من الغرباء فكيف بمن كانا سبب وجوده، وأفنيا زهرة عمرهما من أجله وعاشا لأجله؟!! يعودون للوطن متألقين بمؤهلات عالية ومن أكبر الجامعات العالمية، يحملونها على ظهورهم - بئس ما يحملون - ما دام هذا العلم لم ينفع حامله، فلم يُقدر من ضحوا في سبيله وعانوا غير نادمين. حتى المنازل التي شهدت طفولتهم وصباهم ذهبوا بعيداً عنها وكأنها شبهة، منازل ذابت فيها شموعٌ نقية الفؤاد وإن كانت أميِّة فأضاءت الطريق وصنعت التاريخ لمن لا يستحقه. آسف على من وهن العظم منهم أن يتركوا وحيدين وهم في أمس الحاجة لأبناء ينفضون عنهم غبار السنين، ويرعونهم وقت ضعفهم، للأسف أبناؤهم ضلوا فوقعوا في مستنقع العقوق. المهن الشريفة لا تعيب صاحبها فلماذا الحرج منها، يكفي أنها صنعت علماء كباراً إلاّ أنهم أساؤوا حملها فأساءت لهم ... لا شيء فوق بر الوالدين حتى الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، هذا رجل يستأذن النبي في الجهاد فقال - صلى الله عليه وسلم -: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد". انظروا شفقة ورحمة هذه الأم بولدها، ففي عهدِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ شابٌّ كان عاقًّا لأمّه مقدِّمًا عليها زوجتَه، وأنّه حضرتْه الوفاةُ، وأنّه عُرِض عليه لا إله إلا الله، فانغلق لسانُه عن النطق بها، فأخبِر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بحاله فجاء وقال: هل له من أمٍّ؟ قالوا: نعم، امرأةٌ كبيرةٌ، فجاءت تتّكئ على عكّازة لها، فقال: يا هذه، لو أوقدتُ نارًا وأدخلتُ ابنَك فيها ما تودّين؟ قالت: يا رسول الله! ولدي، لا أريد له ذلك، قال: "إنّ عقوقَه بك منَعه أن ينطِق بكلمة التّوحيد"، فقالت: أشهِدُ اللهَ وأشهِدُك أنّي قد أبَحتُه من حقّي كلّه، فنطق بالتوحيد. يقول الرب جلّ وعلا: ((واخفض لهما جناح الذُل من الرحمة))، فما رأيكم بمن استكبر وأنكر فضلهما؟!! تأملوا كيف كان الأنبياء والمرسلون عليهم السلام، يبرون والديهم واقتدوا واعتبروا. فهذا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام يضرب أروع أمثلة البر في تاريخ البشرية، وذلك عندما قال له أبوه: ((يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)) - فالمطيع من أبنائنا في هذا الزمان أبسط إجابة لديه وأسرعها (ليش؟). فكان جواب إسماعيل عليه السلام: ((يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) . ولما هدد آزر ابنه إبراهيم عليه السلام وقال له: ((أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا))، كان جواب إبراهيم عليه السلام: ((قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)) سلام عليك ما أعظمها كلمة، وما أجمله رد. ويقول عز وجل عن يحيى عليه السلام: ((وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)) وعيسى عليه السلام: ((وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)). وهذا سيد الأنبياء وخاتمهم - صلى الله عليه وسلم - زار قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت.". زيارة قبور الوالدين مستحبة بعد موتهم فكيف بزيارتهم وهم أحياء؟!!. فأين العاقون الجاحدون من القرآن الكريم، وسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأجل التسليم. النفس الأبية تعتز بمنبتها وأصلها، والكرام لا ينسون الجميل ويظلون سجناء هذا الفضل ما بقوا أحياء، هذا مع الغرباء فكيف بمن كانوا وصية الإله عز وجل ورسوله. هؤلاء المرضى منتشرون في الأرض، يتشرنقون باستعلائهم وما يحملون، فالمتغطرس يظل أسير شرنقة غروره رهين أخطائه المستمرة، حتى يكتب نهايته المؤلمة بيده فيهلك لا قدر الله فقد هلك المتنطعون. [email protected]