عندما نقرأ ونتصفح الجرائد ونصل إلى صفحة الحوادث، فإذا بنا نقرأ الولد يقتل أبيه، وذاك يقتل أمه وآخر أودع أباه أو أمه في دار المسنين، وآخر عزل أبيه أو أمه في حجرة بعيدة عنه ليرضي زوجته. ما هذا العقوق وضياع الحقوق وقسوة القلوب، ألا يتذكر هذا وذاك وهو رضيع وأبوه وأمه يتمنون له الحياة، وهو يقول لهم متى تموتون، ألا يتذكر حب أبيه وأمه له وهو رضيع، وكم تمنى الأب والأم أن يكبر أبنهم عاماً بعد عام، حتى ينتظم ويلتحق في مراحل التعليم المختلفة، حتى يتشرف به والديه، ألا يعلم هؤلاء الأولاد أن الأب لا يحب أحداً في هذه الدنيا أن يكون أحسن وأعلى منه في الجاه والمال والسلطان إلا أولاده، وديننا الاسلامي الحنيف مليء بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحثنا على البعد عن عقوق الوالدين والاقتراب من برهما. وقد وصانا الله تبارك وتعالى في كثير من آياته القرآنية ومنها في قول الله تعالى: ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) - الاسراء 23- 24 وقول الله تعالى: ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). - الأحقاف 15 وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة عن الإحسان بالوالدين، قال عليه الصلاة والسلام "رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين". وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد معه، فقال صلى الله عليه وسلم "أحيّ والداك" ، قال نعم، قال "ففيهما فجاهد". أرأيت أخي القارئ كيف فضل رسول الله خدمة الأب والأم على الحرب والجهاد في سبيل الله، ألا يتعظ كل عاق لوالديه ويتوب إلى الله قبل فوات الأوان، وقبل أن يندم أشد الندم على ما فات إذا توفي أحد والديك وهو غاضب عليك، إن حقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وليس من صغائر الذنوب، ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين". انظر كيف اقترنت الإساءة للوالدين وعدم الاحسان اليهما بالشرك بالله، بمعنى أنه إذا مات أحد الوالدين وهو غاضب عليك لا يغفر الله لك هذا الذنب أبداً، ولا يدخلك الجنة، وانتظر العقوبة في الدنيا أولاً، وكما تدين تدان، وستشرب من نفس الكأس الذي سقيت به أباك وأمك. ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر". وعنه صلى الله عليه وسلم قال "لو علم الله شيئاً أدنى من الأف لنهى عنه، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار". وقال صلى الله عليه وسلم "لعن الله من سب أباه، لعن الله من سب أمه". وقال صلى الله عليه وسلم "كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجل لصاحبه". والله يزيد في عمر العبد إذا كان باراً بوالديه، ليزيد له من فعل الخير والحسنات. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أصحاب الأعراف: من هم؟ وما الأعراف؟ فقال: أما الأعراف فهو جبل بين الجبل والنار، وإنما سمي الأعراف لأنه مشرف على الجنة والنار، وعليه أشجار وثمار وانهار وعيون، واما الرجال الذين يكونون عليه فهم رجال خرجوا إلى الجهاد بغير "رضا آبائهم وأمهاتهم، فقتلوا في الجهاد، فمنعهم القتل في سبيل الله عن دخول النار، ومنعهم عقوق الوالدين عن دخول الجنة، فهم على الأعراف حتى يقضي الله فيهم أمره". أرأيت تفسير سيدنا عبدالله بن العباس في اصحاب الأعراف، رجال كل ذنوبهم أنهم خرجوا في الجهاد بدون رضا آبائهم وأمهاتهم، أي أنهم عاقوا والديهم في رضا الله واستشهدوا وقتلوا في سبيل الله، ومع ذلك لم يشفع لهم الاستشهاد، ومنعوا من دخول الجنة حتى يقضي الله فيهم. فالمقارنة هنا ظالمة بين الرجال الذين نتحدث عنهم وبين قتلة الآباء والأمهات. اما عن الأم، فاوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن صحابتها، فهي التي حملة وربت وسهرت وأرضعت وأطعمت ونظفت. إن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال "أمك"، قال ثم من؟ قال: "أمك"، قال ثم من؟ قال: "أمك" قال ثم من؟ قال "أبوك". ويقول الشاعر في فضل الأم: لأمك حقٌ لو علمت كثيرا كثيرك يا هذا لديه يسيرُ فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنةٌ وزفيرُ وفي الوضع لا تدري عليها مشقةٌ فمن غصصٍ كاد الفؤاد يطيرُ وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سريرُ وتفتديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شربٌ لديك نميرُ وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها حناناً وإشفاقاً وأنت صغيرُ فآاااه ً لذي عقلٍ ويتّبع الهوى وآااه ً لأعمى القلب وهو بصيرُ فدونك فأرغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقيرُ وإذا ماتت الأم، ينادي منادي من قبل السماء: "يا ابن آدم ماتت التي كنا نكرمك من اجلها، فاعمل صالحاً نكرمك من اجله". واختم بقول الله تعالى قال تعالى: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيدٌ). ق: 37.