من اسطنبول إلى برازيليا إلى مومباي نسمع جوقة صاخبة من الشكاوي حول إمبريالية الدولار. يقول رؤساء الدول ومحافظو البنك المركزية إن السياسات التي تتبعها البنوك المركزية في البلدان الصناعية، خصوصاً الاحتياطي الفدرالي في الولاياتالمتحدة، وهي سياسة تقوم على مراعاة مصلحتها الذاتية، تعيث الفساد في اقتصادات الأسواق الناشئة. لكن هذا الادعاء في معظمه يتسم بالظلم. فالأسواق الناشئة ليست ضحايا لا حول لها ولا قوة تعرضت للظلم والعدوان. في معظم الحالات ما يحدث بكل بساطة هو أن هذه البلدان تحصد ما زرعت. لنبدأ أولاً بانعدام التناظر الغريب في الشكاوي. حين بدأ الاحتياطي الفدرالي بتخفيف السياسة النقدية عبر برنامج التسهيل الكمي، أخذت بلدان الأسواق الناشئة، خصوصاً البرازيل، تشتكي من طوفان الأموال الذي يغرق أسواقها ويضغط على عملاتها إلى الأعلى. والآن، في الوقت الذي يقوم فيه الاحتياطي الفدرالي بتفكيك برنامجه في التسهيل الكمي، تشتكي هذه البلدان أن هناك حركة هروب لرؤوس الأموال. يقع اللوم على الاحتياطي الفدرالي سواء فتح بوابات السد لتتدفق الدولارات أو أغلق البوابات. لم يتلق البنك شكراً يذكر على دعمه للاقتصاد الأمريكي، وبالتالي للاقتصاد العالمي، في وقت كانت فيه السياسة النقدية في بلدان أخرى (خصوصاً في أوروبا) تؤدي إلى نتائج عكسية. ثم هناك الشكوى حول عدم التناظر في التعاون. تقول الحجة إن الأسواق الناشئة ساندت النمو العالمي خلال فترة التحفيز الهائل في سياسة المالية العامة والسياسة النقدية في أعقاب انهيار بنك ليمان براذرز في عام 2008. لكن في الوقت الذي تعاني فيه الأسواق الناشئة من التقلبات حالياً، لا تصدر إجراءات أو مشاعر قلق من البلدان الصناعية. هذه الحجة، التي مفادها أنه لم تكن هناك معاملة بالمثل، تعاني من مشكلة، وهي أن برامج التحفيز التي تم تطبيقها في 2008 و2009 في تلك البلدان كانت تقوم تماماً على المصلحة الذاتية. صحيح أن الاحتياطي الفدرالي اليوم لا يتصرف وفقاً لأهداف البلدان الأخرى والقيود المفروضة عليها بسبب أوضاعها، لكن بالمقابل لم تتخذ البلدان الناشئة في ذلك الحين الإجراءات نيابة عن البنك المركزي الأمريكي. لا تستطيع أن تقنع الآخرين بأنك على حق حين تغلِّف المصلحة الذاتية بغلاف التعاون الذي يراعي مصلحة الآخرين. إن حكاية كون الأسواق الناشئة ضحية للإجراءات الأمريكية غير صحيحة أيضاً لسببين واسعين. كثير من بلدان الأسواق الناشئة الكبيرة تبنت سياسات العولمة المالية بصورة واعية ومتحمسة. صحيح أن الهوس بالتمويل الأجنبي كان هو الأيديولوجية المهيمنة في الفترة السابقة على انهيار ليمان. لكن لم تكن هناك عوامل ضاغطة محلية تُكرِه هذا البلدان على خطب ود رأس المال الأجنبي بهذا الحماس الذي لا مثيل له. في الصيف الماضي، حين ضربت موجة من التقلب البلدان الهشة الخمسة –وهي البرازيلوالهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وتركيا– كان رد فعل كثير منها هو محاولة فتح أسواقها وتطبيق سياسات تهدف حتى إلى اجتذاب المزيد من رأس المال. خلال السنوات الخمس السابقة في الهند، كل فصل من الضغط على الروبية أثار إجراءات تقوم على تخفيف القوانين التنظيمية على تدفقات رأس المال الداخلة، وهو ما جعل الاقتصاد عرضة للصدمة التالية في الروبية، وهو ما استثار بدوره الموجة التالية من التحرير، وهكذا دواليك. وفي تركيا، نسج صناع السياسة حكاية من عدم الضعف أمام الصدمات والعدوى حتى في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد مدفوعاً بطوفان التدفقات الرأسمالية الداخلة قصيرة الأجل. في المقابل تعطينا الصين موقفاً يختلف عن ذلك. اختارت الصين أن تعزل نفسها عن رأس المال الأجنبي وبالتالي كانت أقل تأثراً بالتقلبات والإجراءات المفاجئة من الاحتياطي الفدرالي والمزاج المتغير للتمويل الأجنبي. بطبيعة الحال السياسات الصينية ليست بريئة تماماً، لكن انعزالها الاقتصادي أعطاها ترف أن تكون متلقية للشكاوي بدلاً من أن تكون هي التي توزعها. بعد أن اختارت الأسواق الناشئة أن تتبنى العولمة المالية، أخذت بعد ذلك تتبع سياسات اقتصادية كان في حكم المؤكد أنها ستؤدي إلى التقلب. البلدان الهشة الخمسة كانت تعاني من عجز كبير في الحساب الجاري، وبعضها عانى أيضاً من معدلات تضخم مرتفعة ومن عجز كبير في المالية العامة. كانت هذه البلدان تلتهم الأموال الأجنبية بدلاً من تشديد أنظمة الإقراض وفرض ضوابط حصيفة. وما فاقم المشكلة هو الجَيَشان السياسي وبوادر اللبس التي تلوح في الأفق أثناء الاستعدادات للانتخابات. من الواضح أن الاقتصاد العالمي يستطيع تحقيق نتائج أفضل من خلال المزيد من التعاون الدولي. لكن تظل الحقيقة هي أن متاعب الأسواق الناشئة ذات مصدر محلي وليست خطأ الأجانب. إن شكوى بلدان الأسواق الناشئة هي حالة واضحة من فكرة لوم الأجانب على خيارات كانت غالبيتها العظمى محلية. تحتاج بلدان الأسواق الناشئة إلى أن تنتبه إلى حقيقة كان ينبغي أن يعرفها كثير من الناس، وهي أن العولمة المالية هي قطعاً لها جوانب إيجابية وجوانب سلبية في الوقت نفسه. فهي مصدر للتقلبات، وتعرض البلد لأن يتأثر بإجراءات تتخذها بلدان أخرى، خصوصاً الولاياتالمتحدة، التي هي بلد ليس ملزَماً بأفعال الإحسان تجاه الآخرين. * داني رودريك أستاذ في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون في نيو جيرزي، وأرفيند سوبرامانيان، زميل أول في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن