الطب مهنة تختلف عن باقي المهن، من ناحية الأهمية والقيمة، لأنها تهتم بصحة الإنسان، فهي مهنة إنسانية وأخلاقية، يندمج فيها العلم والمعرفة والأخلاق العالية بالمشاعر الإنسانية النبيلة, وعلى من يرغب في امتهانها الاتصاف بالفطنة، الكياسة، الذكاء، الإبداع، الفن، الثقافة، حسن الخلق, الصبر, تحمل الجلوس لسنوات طويلة على مقاعد الدراسة, وخوض عالم من المغامرات والتجارب والممارسات.. فالطب من أصعب الدراسات الأكاديمية وأطولها فترة في الإعداد. الأطباء بلباسهم الأبيض المعروف خير معبر عن قلوب بيضاء، إنسانية رفيعة, أخلاق عالية, معاملات متميزة، حس اجتماعي راق, ابتسامة دائما على وجوههم مشرقة.. تمثل تلك العوامل بلسم الشفاء الأول للمرضى, ووسائل جذب ومحبة وتقدير من قبل أفراد المجتمع، حيث ينظرون لهم بنظرة تميز، ويضعونهم في منزلة رفيعة، تختلف عن أصحاب الوظائف والمهن الأخرى.. لأن حياة البشر بين أيديهم، ليكونوا وسيلة للشفاء من المرض والألم.. بفضل الله تعالى. إلا إن الطبيب الذي يتفانى في معالجة الآخرين، يصبح أحيانا بحاجة لمن يعالجه من المعاناة والآلام التي يعاني منها، وكما قال أحد الأطباء في وزارة الصحة (من يعمل في القطاع الصحي الحكومي يعاني آلاما قد لا تنفع معها ولا تشفيها أدوية وزارة الصحة نفسها). نحاول من خلال هذا التحقيق التعرف على بعض العوائق، وتسليط الضوء على ما يشغل أذهان أطباء هذا الوطن، من اجل تحسين هذه الأوضاع المؤلمة, وإيجاد العلاج الشافي لها، وليس مجرد منحهم مزيدا من المهدئات. كنا نتمنى إيراد أسماء الأطباء من ذكور وإناث، الذين هم ضيوف هذا التحقيق، ولكن بسبب تعامل وزارة الصحة مع الإعلام، الذي يتسم بنوع من الريبة والخوف.. فضلنا عدم ذكر الأسماء، حفاظا على أوضاعهم الوظيفية، وعدم تعرضهم ربما للأذى... فما تلك المعاناة والآلام والمتاعب؟ وما الحلول لمعاناة الأطباء؟ هذا ما نعرضه في هذا التحقيق، الذي تنشره (اليوم) على جزءين: الأطباء والصحة في البداية يقول أحد الأطباء: يوجد تهميش لدور الأطباء في وزارة الصحة، التي ترتكز على الأطباء والممرضين، بالإضافة للإداريين من أصحاب التخصصات الطبية، من خلال عدم إشراكهم الكامل في مسؤولية التطوير في الوزارة، وفي النظام الإداري، وتوزيع المناصب الإدارية، التي للأسف الشديد مازالت مناطة بغير الأطباء أو بغير السعوديين.. مضيفاً: إن هذا الأمر يشكك في قدرة الطبيب السعودي، وعدم الثقة به، وهذه نتيجة قلة الوعي لدى بعض المسؤولين المتحكمين في المواقع الحساسة في الوزارة. الصحة والإحباط وعن دور وزارة الصحة في تبني الأطباء حديثي التخرج، يقول أحد الأطباء الاستشاريين: عندما يتخرج الطبيب في الجامعة، بعد سنوات طويلة من الدراسة على المقاعد كطالب طب، ينتظر لحظة تخرجه وتعيينه في مستشفى، لممارسة ما تعلمه.. ولكن للأسف الطبيب السعودي تتبخر كل الآمال والطموح ورغبة التحدي وتحمل المسؤولية، التي رسمها ونسجها طوال أعوام طويلة، بمجرد ان يخطو خطوة واحدة داخل وزارة الصحة، حيث يصاب المتخرج بخيبة، بسبب سوء المعاملة، وعدم التبني والتقدير المنتظر. ويتساءل الدكتور: هل من المعقول، وبعد الدراسات العليا، ومن دون ممارسة عملية في المستشفيات كطبيب، وليس كمتدرب، أن يوجه الطبيب إلى مستشفيات صغيرة، أقل من مستوى التدريب؟ اللوائح الإدارية ومن الأمور غير الصحية في وزارة الصحة، كما يراها طبيب استشاري: ان غياب اللوائح والأنظمة الإدارية، التي تحدد الآلية والكيفية لوصول الطبيب أو غيره للمنصب بوجه حق واستحقاق. فالأطباء يعانون غياب هذه اللوائح والنظم المكتوبة، التي توضح وظيفة كل طبيب، وتحدد حقوقه وواجباته, ومن المؤلم إن وزارة الصحة تفتقد للكوادر المتخصصة في هذا المجال.. مما ينعكس سلبا على الطبيب، ومن ثم على الخدمات الصحية بشكل عام. الكفاءة والقدرة ويضيف الطبيب الاستشاري: ينبغي احترام الكفاءة والقدرة وحسن التصرف والقيادة, وعلى ذلك المقياس (الكفاءة والقدرة) يجب ان يتم إعطاء المنصب والمسؤولية، وليس حسب الجنسية والأقدمية والمحسوبية. وللأسف إن هذا المعيار في توزيع المناصب في الوزارة مفقود, ولهذا نجد بعض الأطباء غير الأكفاء وغير المؤهلين يسيطرون على مناصب إدارية مهمة في مديريات الشئون الصحية في المناطق، وفي إدارة المستشفيات وإدارات الأقسام، ويتحكمون في قرارات كبيرة، وفي رقاب الآخرين. غياب هيئات التطوير ويشير طبيب آخر إلى أهمية وجود هيئات طبية تساهم في تطوير مستوى الأطباء، من خلال إيجاد البرامج والدورات الداخلية والخارجية الطويلة والقصيرة, يقول: من المؤسف انه لا يوجد في بلادنا هيئات عملية، مما يوجد حالة من الإحباط والقلق لدى الطبيب الطموح. ويوضح الطبيب ان دور الهيئة السعودية للتخصصات الصحية مغيب، مع إنها أنشئت لكي تعمل على تطوير الخدمات الصحية في المملكة، من جميع النواحي، والتي أنشأت البرامج المدروسة والمنظمة، على غرار مستوى البرامج والزمالة الغربية، ومن الممكن ان تكون أفضل منها، مثل الزمالة السعودية والعربية، ورصدت لها ميزانية كبيرة، وهي المسؤولة والمنظمة للعمل على تحسين المستوى الطبي، وإعطاء المستشفيات الشرعية والاعتراف، لكي يمارس فيها الطبيب عمله، خلال فترة إقامته في المستشفى، كطبيب مقيم متدرب، أو بالتعاون مع وزارة الصحة، لتوفير أجواء تعليمية وخدمية وتطويرية، إلى ان ينهي الطبيب البرنامج، وينجح في الامتحان، حيث تكون بداية عمله باستقلالية في القرار، وبناء الشخصية الطبية المرحلية والخبرة العملية، تتم بعد ذلك إذا أتيح له إبراز إمكانياته، والعمل على صقلها وبلورتها، ولكن لأسباب معينة، واعتبارات غير حضارية، يحدث تحطيم وتدوير وتجميد للكوادر الوطنية، كما حصل مع بعض الأطباء. المحسوبية والواسطة الطب مهنة أخلاقية، وعلم لا مكان فيه للعب وللممارسات غير الأخلاقية، إلا انه يوجد في وزارة الصحة من يستغل المنصب لتحقيق أهداف خاصة وعائلية، كما ادعى أحد الأطباء، يقول: بعض المديرين في المديريات يضع أقرباءه وأصدقاءه في مناصب كبيرة لا يستحقونها، مثل إدارة المستشفيات والأقسام, وكأن الموضوع خاص بإرث أو ملك عائلي. وتوجد في المديريات والمستشفيات محاباة وتمييز وظلم للطاقات والكفاءات. الطبيب غير الكفء ويقول أخصائي: لا يتورع بعض المسؤولين الكبار في المديريات عن تعيين بعض الأجانب غير المؤهلين في المناصب العليا، والقصد من ذلك تحقيق مآرب شخصية بحتة، كحب السيطرة، وسهولة القيادة، وعدم الافتضاح, ولأنهم أكثر انقيادا للأوامر المشبوهة، وأحيانا غير المسؤولة. ويكمل الدكتور (ط. ش):عندما يصبح الأجنبي غير الكفء في منصب كبير، وله صلاحيات كبيرة، فانه يحاول استغلال المنصب لتحقيق أهدافه ومبتغاه، ويتعامل مع الأطباء السعوديين بطريقة فوقية، وبنظرة حسد وغيرة, ويفضل العمل مع من هو من جنسيته. طبيب مظلوم حول النقطة السابقة، من ظلم الأطباء الوطنيين من قبل المدير الطبي (الموقع الحساس، الذي عليه مسؤوليات عظيمة، وله دور كبير في إدارة المستشفى) غير الكفء، يستشهد أحد الأطباء: خير دليل على ذلك الظلم ان اكبر واهم مستشفى في المنطقة (....) يدار من قبل إدارة غير وطنية، وغير مؤهلة، فهو شاهد على ظلم الأطباء الوطنيين من قبل المسؤولين غير الوطنيين، وغير الجديرين بالمسؤولية فيه، ومن الأفعال غير الأخلاقية التي يقوم بها المدير الطبي غير الكفء تكليف أطباء غير جديرين، وغير مؤهلين، وضعفاء الشخصية لإدارة أقسام حساسة جدا، مثل الجراحة والباطنية، من أجل السيطرة عليهم، وليكونوا دمية في يده. وللأسف عندما يستلم الطبيب إدارة القسم الذي حصل عليه بالعلاقة والمحاباة فأنه يعمل بالبركة، بدون خبرة ووعي، ويصبح القسم مكهربا، خاصة عند وجود أطباء أكفاء وأفضل منه في نفس القسم. صور من الظلم ويشير استشاري إلى انه يوجد أطباء سعوديون استشاريون، ولهم خدمة طويلة، لا يجدون التقدير والاهتمام المناسب، كما يحصل عليه الطبيب الأجنبي، أو السعودي الجديد صاحب النفوذ والعلاقة، الذي يفتقد للخبرة. يقول: أنا طبيب استشاري، أمضيت أكثر من 15 عاما في هذا المجال، وحبي وإخلاصي في عملي يشهد على ذلك، وأنا رئيس قسم، واحرص كثيرا على الاهتمام والعناية بالأطباء المتدربين والمتخرجين حديثا، وكان من ضمن الأطباء الذين تحت إشرافي احد أقرباء مدير المديرية في المنطقة (....)، بعد فترة قصيرة صدر أمر بتعيين الطالب مديرا على القسم الذي أديره، أي انه أصبح مديرا علي، وعلى الأطباء الأكفأ والأفضل منه في القسم، فتقدمت بخطاب إلى مدير المستشفى ومدير المديرية، مستفسراً عن سبب ذلك؟ فرد بجواب ومبررات غير واقعية، مما دفعني للتقدم بشكوى لوزير الصحة شخصياً. عيادات بأسماء الأطباء صورة أخرى من الظلم الذي يتعرض له الأطباء السعوديون، يقول أحد الأخصائيين: هو عدم وضع الطبيب في موقعه المناسب، حسب تخصصه ومكانته الطبية، وحسب رتبته، فبعض الأطباء الاستشاريين في أحد المستشفيات الحكومية الكبيرة، لا يوجد لديهم عيادات خاصة بأسمائهم، حسب ما هو متعارف عليه في وزارة الصحة، بان تكون العيادة باسم الطبيب الأكثر مرتبة (بروفيسور, استشاري, أخصائي, طبيب..) وهذا حق من حقوق الطبيب الاستشاري، ليمارس عمله، حسب ما يراه، وعلى مسئوليته، وليس على مسؤولية وباسم من هو أدنى منه. وتجد في المقابل أطباء أخصائيين سعوديين، وغير سعوديين يتمتعون بواسطة وعلاقات مع الإدارة، لهم عيادات خاصة بأسمائهم. وفي ذلك ظلم كبير، واعتداء على صاحب الحق المسلوب، وهذا الأمر سيؤثر حتماً على نفسية الطبيب، وعلى الرسالة الطبية. نقل الأطباء عن الإجراءات التي تؤثر كثيرا على نفسية الأطباء، خاصة حديثي التخرج، تحدث أحد الأطباء: قيام بعض المديرين الطبيين غير السعوديين، الذين يفتقدون للمسؤولية والوطنية، وبطريقة كأن المسألة محاربة للأطباء الوطنين. بنقل الأطباء السعوديين حديثي التخرج، والمتخصصين في الجراحة والباطنية إلى مراكز رعاية صحية ومستشفيات صغيرة، أو إلى مناطق نائية، تفتقد إلى الإمكانات والأدوات والمعدات وغرف العمليات، لكي يمارسوا اختصاصهم الجراحي. والدولة صرفت مبالغ كبيرة على تعليم هؤلاء الأطباء، ومن الأولى الاهتمام بهم، لصقل مواهبهم وتخصصاتهم الجراحية بعد التخرج في المستشفيات الكبيرة المتطورة (التي تعد بمثابة جامعة طبية)، والتي تحتوي على كل ما يحتاجه الطبيب الجديد، لممارسة عمله وتنمية مهاراته, والطبيب غير السعودي أولى بتحويله إلى المناطق النائية، أو إلى المراكز الصغيرة.. لأن هذا الطبيب يهمه في المقام الأول الحصول على المال، ولم يتغرب من وطنه إلا من اجل المادة، وليس فقط للاستفادة ومراكمة الخبرة من خلال ممارسة العمليات في المستشفيات الكبيرة, وأغلبهم لا يوجد لديه مانع من العمل في تلك المناطق والمستشفيات والمراكز. العمل في (النائية) ويؤيده طبيب آخر، يقول: الطبيب بحاجة إلى ممارسة عمله، وتحريك أنامله بمعالجة المرضى، والإبداع في العمل الطبي الجراحي، وليس إلى التحويل والنقل لمناطق نائية.. فالطبيب الوطني السعودي يهمه تطوير مستواه العلمي، والإبداع في مجال عمله, ومن المهم والضروري أن تكون إدارة المستشفيات الكبيرة بإدارة أطباء مؤهلين أكفاء مخلصين, والأولية للموطنين، في حالة توفرهم، وان يكون أغلب الأطباء سعوديين، لتتم الاستفادة منهم، لكي يمارسوا حقهم الطبيعي في ممارسة عملهم، عمليا في مستشفيات ضخمة. القطاع الصحي الحكومي مطالب بمواكبة العصر المعوقات تمنع الابداع