ربما تتطلب اسهل الاسئلة اصعب الاجوبة حسبما يراه بعض الباحثين.. ومن الاسئلة المتداولة: لماذا حل بنا ما لا يحل لنا؟ سؤال ما ان يطرح حتى تتناثر الاجوبة في كل اتجاه محملة بسيل من الاتهامات الهدامة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، حيث ما ان ترتفع اصابع الاتهام حتى تتوجه نحو كل انحاء الكون بالسب والشتم واللعنة ما عدا أنفسنا التي تحولت الى انفس لوامة شتامة، باكية شاكية من وطأة الحظ المتعثر، وكأن الذي اصابنا اشبه ما يكون بزلزال خارج عن التحكم والسيطرة بل وحتى عن تقصي الاسباب.. هل الامر كذلك؟ ام ان ما هو خارج عن السيطرة هو ذلك الاستعداد الهائل لعدو سهر طويلا ليقتنص غنائمه من ضحية غافلة جهلت قيمتها وقيمها وثرواتها وتراثها، وباعت تاريخا لم تتعب في صنعه، ونامت على اعتاب غد لا تريد ان تعمل من اجله، ويبقى السؤال كيف؟ ولماذا؟ لابد ان الاسباب كثيرة، ولعل اهم نتائجها احباط ذاتي، واحساس بالدونية، وعدم الثقة بالنفس جراء ما اصاب الشارع العربي بأقطابه وفئاته المختلفة. وأما كيف وصلت بنا الطريق الى هذه الهاوية؟ فالقصة قديمة بل قديمة جدا، لن اتوقف عند حدث بعينه، بل عند نتيجة لأحداث عديدة.. منها الصراعات التي تم تسويقها داخل كيان الامة الاسلامية بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم الصراع الخارجي الذي نبع من احقاد الامبراطوريتين العالميتين اللتين قضى عليهما الاسلام في بلاد الفرس والرومان، وتجسدات احقاد بقاياهما في الحركات الشعوبية، والحملات الصليبية، وما تبعها من حركات الاستشراق والتغريب والاستعمار، وما نتج عن ذلك من الحروب الطائفية، وحملات التطهير العرقي.. هذه الاحداث المتلاحقة على مر التاريخ شوهت صور الاديان، وذلك من خلال تشويه حقيقة وظيفتها التي تحمل في جوهرها العدل والرحمة لسائر البشر مهما اختلفت الوانهم واشكالهم ولغاتهم ومواقعهم الجغرافية. اما الصراع التناحري الداخلي بين ابناء الامة فأهدافه هي سحب البساط من تحت اقدام بعضنا البعض، وتضييع دور الدين الاساسي، وتحويله الى أدوات يتم الصراع بها وعليها.. وبهذا نخسر ميزانا سليما لعقولنا التي فقدت توازنها، فكانت النتيجة فوضى عارمة في مجموعة من المواقف والتصورات والمساهمات التي أدت بدورها الى تشويه حقيقة عقيدتنا، والتشكيك في رسالتها، وهذه خدمات مجانية لأعداء الأمة الطامعين، رغم اننا جميعا نعلم في جيب من تسقط الورقة الرابحة؟ ومن هو المستفيد من كل هذا؟. ان ما يحدث في العالم العربي اليوم يجعلنا نتساءل: هل يحق لنا التنازل عن هويتنا وعن حضارتنا؟ وهل يحق لنا التنازل عن شيء لم نتعب حتى في نفض غبار الوهن عنه؟ لقد دفع المناضلون القدامى الغالي والنفيس في سبيل بلورة تلك الحضارة، وترسيخ دعائمها في عالم كان يبجل الفروقات في فترة من الفترات، وكان يعطي حسبما (ادعى) مساحة لحوار بناء بين الثقافات لكي تغني بعضها البعض، ولكن على ما يبدو ان مصالح هذا العصر تتطلب نصا جديدا يتناسب مع الرؤى المفروضة علينا، وذلك لانها تتطلب نصا يتلاعب بالألوان، وبفحوى الكلام لتسمي الاشياء بمسميات (خنفشارية) تخدم جيوش الطامعين بثروات (الهنود الحمر) الجدد. لعل المضحك المبكي ان متطلبات المرحلة الجديدة اقتضت ان يتم التنظير لها بشكل مشكوف ومباشر يستوجب البكاء على ما آلت اليه احوالنا تحديدا فيما يخص طريقة تعاملنا، وسوء فهمنا لحقيقة المفردات المسوقة من حولنا، والتي تجتاحنا عبر وسائل واقنية متنوعة تتولى مهمة غسل ادمغتنا من كل خير بشكل مباشر، او غير مباشر كيفما تشاء.. مباشر عبر خطب السياسيين، والشعارات التي يسوقونها لتتلاءم مع عناوين الحملات الانتخابية حيث يقبع المستقبل المفترض، الذي يبقى في معظم الاحيان وعودا وفرضيات.. وغير مباشر عبر نظريات فكرية تسوقها النخبة من المثقفين والفلاسفة لايجاد المبررات شبه الفلسفية المؤيدة للانظمة الحاكمة، فقد استطاعت النخبة وعلى مدى التاريخ لعب دور اساسي في تشكيل وعي لم يكن مغايرا لاية اجندة سياسية، على الاقل في حقب معينة. لو عدنا الى المدرسة الام الغرب - حسبما اراد الكثيرون منا ان يعتبروه كذلك - فعلى سبيل المثال نجد عددا كبيرا من هؤلاء قد اطلق عليهم في الكتب الرسمية اسم: الفلاسفة الانكليز، فهؤلاء كانوا في البداية سياسيين ارتبطوا بقوة بالاقتصاد الامبريالي لعصرهم.. ولعل الاب المؤسس لتلك المدرسة الذي يقدم في التاريخ الرسمي كرائد للعلوم الحديثة هو فرانسيس بيكون (1561 - 1626) الذي لعب دورا في السياسة الانكليزية كنائب في البرلمان عام (1584) ثم وزيرا للمالية عام (1618) ثم استقال عام 1621 بعد تورطه في فضيحة فساد، وهو صاحب المقولة التي قادت الامبريالية الانكليزية فيما بعد حسب قوله: (الانسان لا يفهم الا ما يرصده) رصد الواقع، اي الوضع القائم، وهذا هو الذي قاد هويز (1588 - 1679) فيما بعد الى اعلان مبدأ الفردية المتوحشة للاقتصاد التجاري الذي ينافس من دون رحمة في كتابه (عناصر القانون السياسي والطبيعي) (1640) ثم دعا في كتابه (ليفياثيان) (1654) الى تطبيق الاستبدادية المطلقة من اجل فرض الوحدة في الغابة التي نعيش فيها حيث النفوس في حالة مجابهة.. اما جون لوك (1632 - 1704) الفيلسوف المعروف فقد خاض غمار السياسة وزيرا للمالية (1698) وغيرها من المناصب التي منحته سلطات عدة جعلته يتبنى سياسة لا تقوم الا على تصور حيواني للانسان حيث تقوده مصلحته وحدها، واما الروح فليس لها أي مكان، واما جيرمي بنتام (1748 - 1832) الذي اعتبر في بريطانيا (نيوتن العلوم الانسانية) فهو مثال آخر على ذلك الخط، اذ اعتبر ان الانسان نوع من انواع الحيوانات التي لا تتحرك الا من اجل مصلحتها الشخصية بحثا عن لذتها، ومحاولة لاستبعاد الألم.. اللذة هنا يتحدد ثمنها حسب السوق، وهكذا تعود أسس عصر الكم الى ذلك النظام حيث السوق هو المنظم الوحيد للعلاقات الانسانية، وبذلك يتقلص الانسان (هيومو ايكونو ميكس) ليصبح مجرد منتج ومستهلك لا يعمل الا من منطلق مصلحته وحدها، انه الانسان الذي اطلق عليه ماركيوز بعد ثلاثمائة عام اسم (الانسان ذو البعد الواحد). ما هذا سوى غيض من فيصل فالتاريخ مليء بالاسماء البراقة، ومن جنسيات مختلفة من اولئك الذين لعبوا ادوارهم على اكمل وجه، وتاريخنا شاهد على ذاك النجاح، نجاحهم هم، النجاح الذي انتج فشلنا حتى في حفظ ماء الوجه، او في حفظ ما تبقى من معالمه، وبهذا اصبحت صفة (الإنسان ذو البعد الواحد) لصيقة بنا نحن، لقد صدروها لنا وقبلنا استيرادها طائعين.