مرت مصر منذ ثورة 25 يناير 2011، التي انفجرت في وجه نظام مبارك ونجحت في إسقاط رأسه في 11 فبراير من نفس العام، بثلاث مراحل انتقالية مختلفة: المرحلة الانتقالية الأولى: أدارها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، واستمرت ما يقرب من ثمانية عشر شهرا، وانتهت بانتخاب الدكتور محمد مرسي، مرشح جماعة الإخوان في الانتخابات الرئاسية، رئيسا للبلاد في30 يونيو 2012. غير أن هذه المرحلة لم تنجح في إقامة نظام سياسي بديل يحظى بثقة الجماهير وقادر على تحقيق أهداف الثورة. فرغم قيام المجلس العسكري بتشكيل لجنة لتعديل دستور 1971 ونجاحه في تنظيم استفتاء على التعديلات التي اقترحتها اللجنة وفي تنظيم انتخابات برلمانية ثم انتخابات رئاسية، إلا أنه لم يتمكن من استكمال بناء مؤسسات النظام البديل مع نهاية هذه المرحلة. فقبل أسابيع قليلة من إجراء الانتخابات الرئاسية، أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكما بعدم دستورية القانون الذي أجريت على أساسه الانتخابات البرلمانية، وعلى إثره صدر قرار بحل مجلس الشعب، فعادت سلطة التشريع من جديد إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة على سلطة التشريع من جديد، وبدأت الخلافات بين الجهة المسئولة عن إدارة المرحلة الانتقالية ورئيس السلطة التنفيذية المنتخب تطفو على السطح، ثم راحت هذه الخلافات تتعمق باطراد بعد تسلم الرئيس المنتخب مقاليد السلطة رسميا، لتنتهي المرحلة الانتقالية الأولى بوجود رئيس منتخب ينتمي لجماعة الإخوان، ولكن في غياب هيئة برلمانية تمارس سلطة التشريع، ودستور ينظم العلاقة بين السلطات. إذا نجحت الحكومة المصرية في تنظيم استفتاء لا يمكن التشكيك في نزاهته، وصوتت نسبة كبيرة من الناخبين بنعم على الدستور فسوف يكون ذلك بمثابة هزيمة سياسية كبرى لجماعة الإخوان. وبعدها فقط يمكن لمصر الدولة أن تخرج من عنق الزجاجة المرحلة الانتقالية الثانية: أدارتها جماعة الإخوان، ولكن من خلال رئيس منتخب هذه المرة، لكنها لم تستمر سوى عام واحد وفشلت بدورها في استكمال بناء مؤسسات النظام الجديد. فقد سعى الرئيس المنتخب في البداية إلى إلغاء قرار حل البرلمان، على أمل تمكين مجلس الشعب الذي تسيطر عليه جماعته من العودة للانعقاد ومباشرة سلطة التشريع، وعندما أخفق في مسعاه هذا قرر الإطاحة بمعظم أعضاء المجلس العسكري، ورغم ما لقيته هذه الخطوة من ترحيب شعبي، على أمل أن تسهم في تمهيد الطريق نحو استكمال بناء مؤسسات النظام الجديد بطريقة ديمقراطية سليمة، فوجئ الشعب المصري برئيس الدولة المنتخب يصدر «إعلانا دستوريا» يحصن بموجبه جمعية تأسيسية مختلة التوازن ومشكوك في شرعية تشكيلها، ومجلس شورى منتخبا بأقل من 8% من إجمالي الناخبين ووفق نفس القانون المحكوم ببطلانه. ولأنه بدا واضحا أن الهدف الوحيد من هذه الإجراءات التعسفية التي لا تمت للديمقراطية بصلة هو التمكين لجماعة الإخوان من الهيمنة المنفردة على مقدرات البلاد، فقد كان من الطبيعي أن تفجر موجة عارمة من الغضب الشعبي. وفي ظل أجواء مشحونة بالتوتر تعكس حالة من الاستقطاب الحاد صدر دستور جديد يمنح سلطة التشريع لمجلس شورى غير مؤهل لذلك، ولم يوافق عليه سوى حوالي 20% من إجمالي المقيدين في الجداول الانتخابية، ولأنه كان من الصعب على الشعب المصري أن يقبل بوضع كهذا، فقد راحت المعارضة لنظام حكم الإخوان تكبر ويشتد عودها إلى أن تمكنت من تفجير ثورة جديدة استطاعت أن تطيح بمرسي بعد أن انحاز إليها الجيش. المرحلة الثالثة: وتديرها الآن سلطة مؤقتة، يقودها رئيس المحكمة الدستورية العليا، وتدعمها المؤسسة العسكرية وسائر القوى السياسية التي قادت حركة المعارضة ضد جماعة الإخوان. وقد طرحت هذه السلطة «خارطة طريق» تتضمن تعطيل «دستور الإخوان» وتشكيل «لجنة فنية» لاقتراح التعديلات المطلوب إدخالها على الدستور المعطل، ثم «لجنة تأسيسية» لمناقشة وإقرار التعديلات المقترحة، كما تتضمن إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية عقب استفتاء الشعب على الدستور المعدل. ورغم تمكن «اللجنة التأسيسية» أو «لجنة الخمسين» من الاتفاق على إدخال تعديلات واسعة النطاق على دستور 2012 جعلت المشروع المطروح للاستفتاء يبدو أقرب ما يكون إلى «دستور جديد» منه إلى «دستور معدل»، إلا أن المرحلة الانتقالية الراهنة لا تزال تواجه تحديدات هائلة، وذلك لأسباب عديدة منها: 1- إصرار جماعة الإخوان المسلمين وبقية القوى السياسية المتحالفة معها على التعامل مع ما حدث في 30 يونيو ثم في 3 يوليو باعتباره انقلابا عسكريا غير شرعي، وبالتالي السعي لإفشال «خارطة الطريق» بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك استخدام العنف إن لزم الأمر. 2- افتقار الحكومة المسئولة عن إدارة هذه المرحلة الانتقالية الثالثة إلى رؤية سياسية تجعلها قادرة على التعامل بكفاءة مع التحديات التي تشكلها جماعة الإخوان والقوى المتحالفة معها. فهذه التحديات تفرض رؤية تتعامل بحسم مع كل من يجرؤ على حمل السلاح ضد الدولة، كما تفرض في الوقت نفسه التحلي بما يكفي من المرونة السياسية لاستيعاب واحتواء القوى المعارضة لخارطة الطريق والتي ترفض استخدام العنف. لا جدال في أن هذا التخبط يفسر انتظار الحكومة إلى وقوع عمل إرهابي مروع كذلك الذي استهدف مديرية أمن محافظة الدقهلية الذي أدى لسقوط أكثر من خمسة عشر قتيلا، معظمهم من ضباط وجنود الأمن، وما يقرب من 150 جريحا، إلى إصدار «بيان» يعلن فيه جماعة الإخوان «تنظيما إرهابيا»، ويقرر «توقيع العقوبات المنصوص عليها في نص المادة 86 من قانون العقوبات على كل من يشترك في نشاط الجماعة أو التنظيم، أو يروج لها بالقول أو الكتابة أو بأي طريقة أخرى، وعلى كل من يمول أنشطتها، وعلى كل من ينضم للجماعة أو التنظيم بعد صدور هذا البيان». يصعب منذ الآن قياس التأثير الذي قد يحدثه بيان الحكومة المصرية هذا، لكن الشيء المؤكد أن الاستفتاء على الدستور سيمثل اختبارا للجميع، فإذا نجحت الحكومة المصرية في تنظيم استفتاء لا يمكن التشكيك في نزاهته، وصوتت نسبة كبيرة من الناخبين بنعم على الدستور فسوف يكون ذلك بمثابة هزيمة سياسية كبرى لجماعة الإخوان. وبعدها فقط يمكن لمصر الدولة أن تخرج من عنق الزجاجة التي تبدو محشورة فيها الآن. [email protected]