كان بيت المتنبي يطل عليَّ في كل ناحية من نواحي (كوالالمبور)، وأنا أرى تجاور الجمال الطبيعي والجمال المُطَرَّى: حسن الحضارة مجلوب بتطرية، وفي البداوة حسن غير مجلوب، وفي كل منهما حسن، ولكن ربما غيّر المتنبي رأيه هذا لو أنه رأى كيف استطاعت أنامل مهندسي ماليزيا أن تحوّل إسهاماتها الخلابة إلى جزء من الطبيعة البكر، انسَجَمَت معها واتحدت، حتى: تصف العين أنهم جدُّ أحياء، لهم بينهم إشارة خرس، مما يجعلك تقول: يغتلي فيهم ارتيابي حتى تتقراهم يداي بلمس!! كما صرخ البحتري وهو مبهور بلوحة (أنطاكية على جدار إيوان كسرى). الخضرة تفرش الحياة كما تفرش الشمس الأضواء فوق الجبال والأودية وعلى أكتاف الشوارع والحدائق، بل وعلى سطوح الأبنية، حتى تخضر أضلاع الرائي وأساريره!! وتتمادى نوافير الأشجار على جوانب الشوارع الرئيسة في المدينة، في التحايا والوصال؛ حتى تتعانق مع مثيلاتها في الجانب الآخر من الشارع، فتشكّل ظلالاً ممتدة، كأنها أروقة جامع أثري، تلعب في طلاء جدرانه خيوط الشمس الذهبية، التي تبدو وتغيب؛ كعذراء مخبأة، يتنازع خدَّيها حياء ورغبة.والأنهار تطرز الميادين، وتصل الفندق والفندق بقوارب حالمة، تتهادى على رقراق ماء صقيل؛ تطوَّع أن يستضيف صفحة السماء بكل تشكيلاتها وظلالها وألوانها المموّهة بألوان الطيف، وتستحم فيها قامات الأشجار المعمرة، والمباني التي دبَّت إليها فكرة التوأمة، من مبنى (التوأم) الشهير؛ حتى أصبحت سمة عمرانية في ضواحي العاصمة. كل شيء هنا يسهم في إضافة لمسة جمالية، أنوار الشوارع، والجسور، حتى دورات المياه العامة، بل عجبت من ذكاء الماليزيين في أحد جسور المشاة، كيف عالجوا مشكلة نفور المشاة منه؛ بسبب ارتفاعه وطوله عادة، بأن جعلوه كهربائياً، مما جعل الإقبال عليه يتضاعف، وسلَم الناس من الدهس، والسيارات من التوقف المتكرر الخطر. لم تكن تلك المعالم السياحية هي كل ما يجذب السائح، بل إن طباع الماليزيين جاذبة أيضاً، ابتسامة نقية، ومبادرة بالسلام، وحديث هادئ، فخلال أكثر من أسبوع كنت فيه خارج الفندق أكثر من وجودي داخله، لم أرَ اثنين يتجادلان أو يختلفان أو يتشاجران، ولم أسمع إلا نادراً صوت منبه السيارة، بل معظم الذين تحدثت معهم كأنهم يهمسون، ما عدا الذين يضيفون إلى أدوارهم السياحية دوراً تمثيلياً، حيث يزيد بأصواته العالية والهابطة من متعة السياح، وهو يعلق على المشاهد الجميلة أو المثيرة حوله. وبتُّ أتساءل: أجواء ماليزيا رطبة، وأحياناً حارة أيضاً، ولكنها تجتذب السياح بكفاءة عالية، هل هي الخضرة وحدها؟ أم البحر؟ أم (صناعة السياحة)؟ كل الذين رأيتهم من أهل الديار.. رأيتهم يعملون، لم أشاهد ما شاهدته في بعض الدول عربيّها وأجنبيها من تواجد أرتال من الشباب في الشوارع وتحت الجسور وعلى قارعات الطرق وعند مطلات الأنهار.. لا عمل لهم، حتى غدوا القنبلة القابلة للانفجار في أية لحظة، بل أزعم أنها حتى ولو لم تنفجر فإنها تظل تلوث البيئة بإشعاعات مهلكة على المدى الطويل. لقد أطلق ابني (مهند) على هذا الإنجاز الماثل للعيان مصطلح (المليزة) على وزن (السعودة)، الذي اعتنى بالشباب عناية فائقة، جعلت الدولة تبحث مشروعا ضخما لتزويج المراهقين أيضا؛ للحد من الانحرافات التي تراودهم في هذه السن بالذات، وهو مشروع عملاق، بعد أن نجحت في إنجاز مشروع عملاق قبله أيضا، يعدُّ الأول عالمياً في الإعداد للزواج الآمن المستقر، حيث انخفضت نسبة الطلاق لديهم من 31% إلى 7% فقط بعد تطبيقه، ويتلخص في برنامج تدريبي لمدة شهر كامل، يخرج منه الشاب والفتاة بكل مهارات الحياة الزواجية والمنزلية وأحكامها الشرعية، وجعلته ملزماً كما هو حال قرار الإلزام بالفحص الصحي تماما.