الامراض العقلية عبارة عن حالات وانفعالات سلوكية خارجة عن الحد الطبيعي المألوف في حياة الناس الاجتماعية اما بالزيادة اوالنقصان وبالتجاوز أو التقصير والامراض العقلية اصبحت هاجس معظم المجتمعات ولها تأثير اجتماعي واقتصادي ونفسي كبير ليس على الافراد المصابين فقط وانما على المحيطين بهم في البيت والمدرسة والعمل وعلى المجتمع بصفة عامة. ورغم ان الكثيرين بدأوا يتفهمون هذه الامراض الا ان البعض مازال يتردد في الذهاب بها الى الطبيب ويتجنب التحدث عنها او مجرد الاعتراف بوجودها. الدكتور سالم رشود اخصائي الامراض العقلية يتحدث فيما يلي عن مختلف الجوانب المتعلقة بالامراض العقلية واعراض مثل هذه الاضطرابات وعلاجها. سألنا اولا الدكتور رشود عن طريقة التعرف على الاشخاص المصابين عقليا ومن ثم تقييم وتشخيص حالتهم لنحكم بانهم مصابون عقليا؟ يقول الدكتور رشود ان علماء النفس يرون ان شلل القدرة السلوكية او العقلية الارادية هو ظاهرة لاصابات مرضية عقلية او نفسية او عصبية يمكن الاستدلال عليها بأحد دليلين داخلي وخارجي فالدليل الداخلي يقوم على وصف المريض بنفسه لسلوكه وانفعالاته وافكاره وتخيلاته وهواجسه اما الدليل الخارجي فيستند الى سلوك المريض ومراقبة تصرفاته الارادية. ويرى بعض العلماء ان الاستناد على الدليل الخارجي وحده وتجاهل الدليل الداخلي يعتبر خطأ علميا وتحليليا فقد دلت التجارب على ان الاحكام الصحيحة على الحالات المرضية كثيرا ماتكون نتيجة لشكوك وهواجس واوهام يفصح عنها المريض ولاتظهر آثارها في الخارج او نتيجة لسيول نفسية شاذة كانت مكبوتة في اعماقه ومتضاربة مع الظروف الخارجية فسببت له الاضطراب او المرض العقلي. * يعتقد العامة ان المريض العقلي هو الشخص الذي تكون سلوكياته خارجة عن المألوف في مجتمعه فما الرأي الطبي؟ لايحصر المحللون النفسيون المرض العقلي في اضطراب السلوك المخالف للسلوك الاجتماعي المألوف فقط بل يرون ان هناك شذوذا وجدانيا شعوريا او عدم توازن بين الانفعالات النفسية والافكار من جهة والسلوك والاعمال من جهة ثانية وفي هاتين الظاهرتين دلائل واضحة على اصابات عقلية يجب التنبه اليها والاسراع في معالجتها ومن مظاهر الشذوذ في الحياة الوجدانية والشعورية كثرة المخاوف والاستسلام المستمر للغضب والعصبية والاغراق في الفرح والسرور او بالكآبة والحزن وانعدام التأثر بالمؤثرات او المثيرات العادية والقيام بأعمال مخلة بالآداب ينفر منها الذوق العام وانفصام الشخصية وعدم اتزانها هذه المظاهر والاعراض كلها تدخل ايضا ضمن ما يسمى الامراض العقلية. وقد قام علم النفس الحديث بما يشترط فيه من توافر المنطق والموضوعية والدقة في الدراسة والتحليل بوضع مقاييس مبدئية للحكم على الخلل العقلي اقلها معرفة سن الشخص المطلوب معالجته ومستواه العقلي ونوعه ومنزلته الاجتماعية والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها فما هو طبيعي بالنسبة الى الطفل مثلا من ميل دائم الى اللعب واللهو او الى المرح الزائد، يعتبر في رأي العلماء شذوذا نفسيا او مرضا عقليا عند البالغ لذلك رأوا ان مثل هذه الظواهر تحتاج الى فهمها ومعالجتها الى اسس تحليلية عميقة. * ما الاسباب المؤدية لحدوث الانهيار العقلي للشخص؟ تقسم الامراض العقلية باتفاق علماء النفس الى 3 انواع رئيسية اذا اخذت بعين الاعتبار الاسباب والعوامل الرئيسية التي تنشأ عنها هذه الامراض. الامراض الوظيفية: هي التي يسببها عجز عضو من اعضاء الجسم عن القيام بوظيفته وقد رأت العالمة النفسية اليزابيث سيفرن في هذا المجال ان كل عضو من اعضاء الجسم يكون مرضه سببا لمرض نفسي وقد ذكرت امثلة عديدة تؤكد صحة هذا الامر منها ان مرض القلب يسبب اضطرابات وجدانية عاطفية ومرض الطحال يؤدي الى الكسل واضطرابات المعدة تنعكس كآبة وضيق صدر ومرض الكبد يقف وراء سوء الظن والخشونة في معاملة الناس.. الخ. الامراض العضوية: هي التي تنتج عن خلل او اضطراب في تكوين المخ وانسجته واوعيته او عن عطب يصيب خلايا المخ بسبب حادث او مرض. الامراض الانسمامية: هي التي تتسبب فيها حالات انسمام في بعض اعضاء الجسم وتحدث اما بسبب تناول المواد السامة او العقاقير المضرة واما بسبب بعض الامراض المزمنة التي تتفاعل في معظم الاحيان وتتحول الى حالات انسمام العضو المصاب. الانسان وحدة متكاملة من جسم وعقل لذلك كان من الطبيعي ان كل مايؤثر فيه وينعكس في تصرفاته وسلوكه يرتبط ارتباطا وثيقا بهاتين الناحيتين المكونتين الجسم والعقل. وقد اثبتت التجارب التي قام بها بعض علماء النفس ان المرض العقلي هو كناية عن ضعف او نقص او خلل يصيب العقل فيؤدي الى عجزه عن القيام بوظائفه وهذه الوظائف حصرها العلماء في الادراك والوجدان ثم اثبتت التجارب ايضا ان لمعظم الامراض العقلية او النفسية ان لم يكن لها كلها اسبابا جسمية وان لكثير من الاصابات الجسمية اسبابا عقلية او نفسية وهذا ما اكد للعلماء ان الانسان وحدة جسمية عقلية نفسية. ولكن الاصابة الجسمية تطغى احيانا في اعراضها وظواهرها على الاصابة العقلية فيشخص المرض على انه جسمي كما ان الاصابة العقلية قد تطغى بدورها احيانا على الاصابة الجسمية فيصور المرض على انه عقلي وانطلاقا من هذا التداخل في العوامل والمؤثرات التي تشترك في احداث الامراض العقلية والجسمية يمكننا ان نقسم اسباب الامراض العقلية الى فئتين. الاسباب غير المباشرة وهي السابقة او الممهدة للمرض. الاسباب المثيرة المباشرة وهي التي ينشأ عنها المرض. الاساب غير المباشرة: وهي التي تجعل الانسان مهيأ ومعرضا للاصابة المباشرة على سبيل المثال نذكر ان الاسباب الممهدة لمرض ذات الرئة هي الادمان والاسراف في تناول المواد الكحولية الى جانب سوء التنفذية فهذه العوامل تهيئ الانسان الى للاصابة بجعل قدرة الجسم السليم فتحصل الاصابة بالمرض فعليا. * ما اهم الاسباب السابقة والممهدة للامراض العقلية؟ الوراثة، السن، النوع، البيئة، المهنة والاصابة السابقة. فالوراثة تعتبر من اهم العوامل التي تهيئ الانسان وتجعله عرضة للاصابة بالامراض العقلية وقد اثبتت الاختبارات والتجارب التي قام بها بعض العلماء ان اكثر من ثلث المصابين بالامراض العقلية في بعض الحالات من عائلات كانت تشيع او تكثر فيها الامراض العقلية او الاضطرابات العصبية وفي نظر العلماء المتخصصين في معالجة الامراض العقلية والعصبية الوراثية ان المريض لايرث المرض المصاب به الجد بحد ذاته ولكنه يرث حالة الاستعداد العصبي فاذا كان الاصل او السلف المورث ضعيف الاعصاب ضعفا مزمنا نتيجة اصابته بمرض عقلي قد يكون المرض نفسه الذي اصيب به سلفه وقد يكون اي مرض عقلي آخر. لكن ليس بالضرورة ان يشمل انعكاس الاضطراب العقلي او العصبي عند السلف جميع افراد العائلة اي كل الفروع التي تفرعت من الاصل فهناك حالات كثيرة اجريت عليها التجارب والاختبارات الوراثية وتبين منها ان الانتقال الوراثي لايشمل جميع افراد العائلة الواحدة وان كثيرا من هؤلاء يسلمون من الاصابة بما اصيب به غيرهم من الفروع. السن لاشك في ان مراحل العمر عند الانسان ذات دور بالغ الاهمية في جعله مهيأ للاصابة بالامراض العقلية فالسنوات الخمس الاولى من حياة الطفل هي التي تبذر فيها بذور الشخصية فتتكون ولذلك تعتبر هذه السنوات محفوفة بكثير من المخاطر لان بعض اصول او بذور الامراض العقلية قد تبذر وتنبت فيها ولكن آثارها واعراضها لا تظهر الا في مرحلة البلوغ اما مرحلة المراهقة وبعدها البلوغ وما بعدهما بقليل فتكون اشد ادوار الحياة العقلية خطرا اذ تصبح فيها العقول اكثر تهيؤا للاصابة بالامراض العقلية خصوصا مايعرف بهستيريا المراهقة. وفي سن الشيخوخة يصبح الانسان معرضا لضعف الجسم والعقل مما قد يصل به الى حد الخرف اذا طالت مرحلة الشيخوخة. النوع والجنس اكدت الدراسات والابحاث التي قام بها الاطباء وعلماء النفس ان النساء اكثر استعدادا وتهيؤا للاصابة بالامراض النفسية والعقلية من الرجال ويعود ذلك الى عوامل بيولوجية وعاطفية واجتماعية تمنع المرأة من التصريح والاعلان عن مطالب ورغبات وجدانية شعورية عميقة فتضطر الى كبتها ودفنها في اعماقها لتظهرها فيما بعد بشكل او بآخر من اشكال الظواهر والاعراض المرضية النفسية والعقلية وقد ذهب بعض العلماء في الماضي الى ان مرض الهراع (الهستيريا) لا يصيب الا النساء لانهم اعتقدوا ان سبب هذا المرض بيولوجي وهو اصابة امرأة بخلل او مرض فكانوا يعمدون الى استئصال الرحم او المبيضين علاجا لهذا المرض ولكن تقدم العلم والطب اثبت ان الهستيريا ماهي الا استجابة لانفعالات نفسية. العوامل البيئية: للعوامل البيئية اثر كبير جدا في تكوين الاستعداد النفسي والعقلي عند الانسان سواء لمواجهة الامراض العقلية او للوقوع ضحية لها وعدم اكتساب المناعة الكافية لمقاومتها وهذه العوامل البيئية عديدة لعل ابرزها التفاعل الداخلي بين الانسان وسائر افراد عائلته والتفاعل الخارجي بينه وبين المجتمع فالاسرة في نظر علماء النفس هي البيئة الاجتماعية الرئيسية الى الطفل وينمو فيها ويترعرع متأثرا بكل العوامل والمؤثرات التي لاتكتنفه لاسيما الارتباطات والعلاقات الانفعالية والذهنية منها التي تصل بين افراد الاسرة الواحدة من اب وام واخوه ولعل مايؤثر في الانسان عموما والطفل خصوصا اتجاهات كل من الوالدين وسلوكهما الواحد تجاه الآخر ثم سلوكهما معا نحوه وعلاقتهما به اما العوامل البيئية الخارجية فمتنوعة ومتضاربة وهي على تنوعها وتضاربها تؤدي احيانا الى نتيجة واحدة وهي جعل الانسان اشد تهيؤا وتعرضا للاصابة بالامراض العقلية فالحروب والمآسي الاجتماعية ومافيها من مظاهر مرعبة ووحشية تتقزز لها النفوس والشذوذ الخلقي المتفشي ببعض المجتمعات كل ذلك ينطبع في اعماق النفس البشرية ويختفي في اللاشعور ليتبلور فيما بعد سلوكا شاذا وتصرفات لا ارادية ولا واعية عند اقل تعرض بسبب من الاسباب المباشرة المثيرة. وفي الوقت نفسه يرى العلماء ان المدينة المتطورة المتقدمة تعتبر ايضا سببا رئيسيا في تهيئة الانسان للاصابة بخلل نفسي او عقلي او المعاناة من مشاكل نفسية ذلك ان العقل الانساني بات غير قادر على تحمل الضغوط القوية التي تزداد يوما بعد يوم كالضجة والسرعة وتعقيدات الحياة العصرية. المهنة: من العوامل غير المباشرة التي تجعل الانسان اكثر تهيؤا واستعدادا للاصابة بالامراض العقلية بعض المهن التي تتطلب ارهاقا وجهدا عصبيا وفكريا او تلك التي يكثر فيها حول العامل الضجيج واصوات الآلان والارتجاجات الصوتية او تحتاج الى حركة آلية سريعة بالرأس واليدين ولكن ليس بالضرورة ان يصاب كل من يمارس مثل هذه المهن بأمراض عقلية او عصبية فيما بعد عند ظهور اي سبب من الاسباب المثيرة المباشرة التي سنتحدث عنها لاحقا. الاصابة السابقة: نتيجة التجارب التي قام بها عدد من العلماء تبين ان المرضى الذين كانوا قد اصيبوا سابقا بمرض عصبي او عقلي ثم عولجوا وتم شفاؤهم من الاصابة يصبحون اشد استعدادا وقابلية للاصابة من جديد عند بروز اي عامل مباشر من العوامل المثيرة ذلك لان العضو المصاب سابقا او المنطقة العصبية التي اصابها الخلل في المرة الاولى يصبحان اشد حساسية وتأثرا لما صار عليه من الضعف والوهن وعدم عودتهما كليا الى حالتهما الطبيعية السابقة للاصابة. وقد اشار العلماء الى اهمية هذه الاسباب السابقة نظرا الى صعوبة مواجهتها بالوسائل العلمية والطبية لانها في معظمها عوامل طبيعية ولكنهم على الاقل تنبهوا الى مدى دورها في التسبب بالامراض العقلية والعصبية فوجهوا اهتمامهم الى تقصيها عند محاولتهم التحليل او المعالجة لحالات الاضطرابات لان في اكتشافها ومعرفتها مايسهل عليهم فهم حقيقة تلك الاضطرابات واعتماد العلاج الملائم لها.