يطالبون سوريا بأن تستوعب درس العراق، ولا تكرر تجربته. أصابوا في النصيحة، لكن يبدو أن البعض اخطأ في الدرس. فمنهم من قرأه من زاوية الدعوة إلى الانصياع والاصطفاف في بيت الطاعة الأمريكي، حتى لا تتعرض سوريا لدق العنق، وهم بذلك يدفعونها إلى طريق الندامة الذي لا رجعة منه. في حين ان أول صفحة من الدرس واجب القراءة تقول للجميع بصوت عال أن التصالح بين السلطة والمجتمع هو طوق النجاة وطريق السلامة، حتى لا تلقى صور وتماثيل السلطة ذات المصير الذي رأيناه في بغداد. (1) لم يضيعوا وقتاً، وصوبوا سهامهم نحو سوريا بأسرع مما توقعنا. نعم كنا نعلم أن سوريا وحزب الله في لبنانوإيران (البعض أضاف ليبيا) احتلوا صدارة المطلوبين بعد إسقاط النظام العراقي (هناك آخرون مطلوبون ولكن دورهم يأتي في ترتيب لاحق). لكني كنت أحد الذين تصوروا انهم سيلجأون إلى استدعاء تلك الملفات تباعاً بعد أن تستقر الأوضاع للأمريكيين في العراق ولو بصورة نسبية وبوجه أخص بعد تشكيل حكومة انتقالية في بغداد - لكن يبدو أن ذلك الظن كان متفائلاً بأكثر مما ينبغي، وان نشوة النصر الظاهر، جعلت واشنطون تبدأ في ملاحقة سوريا بمختلف الادعاءات والاتهامات. ولست اشك في أن اسرائيل وراء استعجال الملاحقة، لسبب جوهري هو أن الحرب على العراق تقاطعت فيها المصالح الأمريكية النفطية مع الحسابات الإسرائيلية الاستراتيجية، خصوصاً مخاوفها من تنامي القدرة العسكرية العراقية. (لا تنسى أن اسرائيل دمرت المفاعل النووي العراقي في عام 1981) - لكن الأمر مختلف في الحالة السورية، لان الإغراء النفطي غير وارد، ومن ثم فالمصلحة الأمريكية المباشرة لا وجود لها في حقيقة الأمر، والمصلحة المرجوة إسرائيلية خالصة. ومن يتابع الصحافة الإسرائيلية خلال الأسبوعين الأخيرين، يلحظ فيها بوضوح ذلك الاستعجال لقطف ثمار الحرب، التي أريد لإسرائيل من البداية أن تقف خلالها في الظل، وان تمارس دورها الكبير فيها من وراء ستار، من باب الاحتياط، لتهدئة غضب الشارع العربي. وشارون نفسه هو القائل لصحيفة يديعوت احرونوت انه خلال الحرب، ساد مستوى في التنسيق بين اسرائيل والولاياتالمتحدة لم يسبق له مثيل في تاريخ البلدين، منذ أقيمت اسرائيل. اذا كان الدفع على ذلك المستوى، فقد نفهم تعجل اسرائيل في القبض، الذي لا تمانع تل أبيب في أن يكون على أقساط، شريطة أن تكون سوريا هي القسط الأول. ذلك انه بعد إسقاط النظام العراقي، وإخضاعه لقيادة جديدة موالية لإسرائيل، وفي ظل وجود اتفاق سلام وتعاون وثيق بين عمان وتل أبيب، فان الجهة الشرقية التي ظلت تهدد اسرائيل لم تعد موجودة من الناحية العملية. والجملة الأخيرة اقتبستها من تحليل كتبه اريك باخر في صحيفة معاريف (عدد 15/4)، وفيه ذكر انه لم يبق في الجبهة الشمالية غير سوريا، التي اذا لم تعتدل فأمامها الكثير من الكدر في السنوات القادمة. وفي رأيه انه اذا ما واجهت سوريا موقفاً أمريكياً حازماً، فان ذلك سيكون له صداه في لبنان، الذي سوف يوقف نشاط حزب الله عند حد لا يسمح له بفرض اجندته إزاء اسرائيل. هكذا ففي تصورهم أن التخلص من الصداع الذي تسببه سوريا لإسرائيل، سوف يكمل حلقات تأمين الجبهات المحيطة بها، الأمر الذي يطمئنها من ناحية، ويمكنها من الاستفراد بالملف الفلسطيني من ناحية ثانية. (2) حين فتح الملف قرأت حيثيات الادعاء ضد سوريا، التي سمعناها من قبل موجهة ضد العراق، وقد ضمت القائمة المعروفة امتلاك أسلحة دمار شامل وصواريخ بعيدة المدى، ودعم الإرهاب (المقاومة الفلسطينية وحزب الله)، وإيواء إرهابيين (عناصر وأركان النظام البعثي العراقي)، وأضيفت إلى القائمة مسألة العلاقة مع إيران، المعادية لإسرائيل والتي تدعم بدورها حزب الله. هذه الاتهامات ترددت في واشنطون على ألسنة الرئيس بوش ووزيري الخارجية والدفاع في حكومته. كما رددها بشكل مواز في اسرائيل رئيس الوزراء ارييل شارون ووزير الدفاع شاؤول موفاز. ليس عندي تعليق على مثل هذه الاكتشافات التي برزت فجأة بعد احتلال العراق، فملابساتها ومقاصدها مفهومة، لكنني سأكتفي بثلاث ملاحظات في الموضوع تساعدنا على تصور أبعاده، منقولة عن المصادر الأمريكية والإسرائيلية. * الملاحظة الأولى أوردتها صحيفة واشنطون بوست، ونقلتها عنها صحيفة الشرق الأوسط (عدد 19/4)، وخلاصتها ان سوريا بدأت منذ 30 سنة في الحصول على الأسلحة الكيماوية وصواريخ سكود، طبقاً لمعلومات المسئولين في الاستخبارات الأمريكية (تذكروا الحكاية الآن!) - وحسب أحد المسئولين في الاستخبارات فان الرئيس السابق حافظ الأسد لجأ إلى ذلك لمواجهة تطوير اسرائيل للأسلحة النووية. وقد اضطر إلى ذلك حين أدرك أن الأسلحة الروسية التي يعتمد عليها لا يمكن أن تتكافأ مع ما طورته اسرائيل في مجال السلاح النووي، وما تتسلمه من أسلحة من الولاياتالمتحدة. أضاف تقرير واشنطون بوست أن ثمة إجماعا بين الخبراء المعنيين في واشنطون على أن كل بلدان الشرق الأوسط تواصل تطوير برامج أسلحة الدمار الشامل. وهي تقوم بذلك بسبب ما تمتلكه اسرائيل من أسلحة. وهو ما صرح به جوزيف كرينسيون رئيس برنامج منع انتشار الأسلحة، في مركز كارينجي لتحقيق السلام العالمي. * الملاحظة الثانية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال في حوار أجرته معه صحيفة يديعوت احرونوت في 16/4، ان لدى سوريا ترسانة ضخمة جداً من السلاح الكيماوي ومحاولات لامتلاك قدرة صاروخية (انظروا: من يتكلم؟)، غير أن اسرائيل (التي سلطت أبواقها لتملأ الدنيا ضجيجاً بسبب ذلك) ليست في دائرة الخطر، ولا تتوقع هجوماً سورياً عليها. وذلك يعود إلى تدهور وضع الجيش السوري، ولأنهم يقدرون أن اسرائيل تعرف كيف تدافع عن نفسها. (لم يسأله محاوره ناحوم برنياع، اذا كان الأمر كذلك، فمم الخوف ولماذا الضجيج إذن!). * الملاحظة الثالثة وردت في تعليق آخر نشرته الصحيفة في اليوم ذاته. وفي مستهله قال صاحب التعليق يرون لتدن ما نصه: اثنان على الأقل يبتسمان لسماع اتهامات جورج بوش بحق سوريا (الخاصة بامتلاكها للسلاح غير التقليدي) هما: موردخاي فعنونو وماركوس كلينبرج، فكلاهما يعرفان جيداً طبيعة السلاح الموجود في الجعبة الإسرائيلية. فحسب منشورات أجنبية فان ذلك السلاح يفوق بقوته الفتاكة سبعة أضعاف ما هو موجود لدى كل العرب. الأمر الذي يثير تساؤلاً حول ما يسمح للبعض وما يحظر على البعض الآخر، وما يباح للقوى العظمى حيازته، وما يحرم على الآخرين. وفي إجابته قال ان المهم ليس نوع السلاح، وإنما هوية حائزيه فالدول المهيمنة قررت أن أسلحة الدمار الشامل التي تحوزها ترمي إلى الردع وحسب، فيما أن أسلحة الدمار التي توجد في أيدي الآخرين من شأنه أن يمتشق ويستخدم لأهداف عدوانية. (3) التسخين مستمر في واشنطون. وفي أعقاب التنديدات والتهديدات التي صدرت عن الإدارة الأمريكية، ترددت الأصداء في الكونجرس. فبدأ بعض الأعضاء يتحدثون عن مشروع قانون محاسبة سوريا الذي قدم في العام الماضي، وذهب آخرون إلى إعلان حملة تحرير سوريا، على غرار حملة تحرير العراق. وثار لغط آخر عن توقيع عقوبات اقتصادية من قبيل تجميد الأصول والإيداعات السورية بالخارج. ومنع الصادرات، وتقييد حركة الدبلوماسيين السوريين. بل تحدث البعض عن ضرورة تحميل دمشق مسئولية أية هجمات لحزب الله اللبناني، موجهة إلى الأهداف الإسرائيلية (نيويورك تايمز - 18/4). ورغم أن المشهد بدا وكأنه تسابق في استباحة سوريا والنيل منها، إلا أنني ازعم أن الأمر لن يصل إلى درجة القيام بعمل عسكري أمريكي ضدها لأسباب عدة، ليس بينها بطبيعة الحال احترام سيادة البلد او احترام الأمة العربية. أول تلك الأسباب أن الولاياتالمتحدة لا تحتاج إلى عمل عسكري ضد سوريا لكي تحقق ما تريد. فإسرائيل يمكن أن تقوم بالعمل العسكري اذا كان ضرورياً، وهناك العديد من الذرائع التي يمكن أن تتعلل بها في ذلك. ثم ان الولاياتالمتحدة ليست لها تطلعات خاصة في سوريا كما سبقت الإشارة، ناهيك أنها تدرك جيداً انه ليست لها مشكلة مع دمشق، وان المشاكل هي بين دمشق وتل أبيب الأمر الذي يجعلها تحجم عن العمل العسكري، خصوصاً أن ذلك العمل يتعذر تبريره امام الناخب الأمريكي. فضلاً عن هذا وذاك فان هناك ثقة في البيت الأبيض في أن الولاياتالمتحدة تستطيع أن تبلغ مرادها عن طريق الابتزاز والضغوط السياسية والاقتصادية، خصوصاً أن سوريا أبدت تعاوناً ملحوظاً رحبت به واشنطون بعد 11 من سبتمبر، فيما سمي بمكافحة الإرهاب. ليس ذلك رأيي وحدي. فقد وقعت في الشرق الأوسط (عدد 18/4) على تقرير منقول عن صحيفة لوس انجيلوس تايمز عبر عن نفس الموقف. إذ ذكر كاتبه رونالد بروانستاين أن الذين كانوا اكثر الناس حماساً للحرب ضد العراق، اصبحوا يتبنون الآن الدعوة إلى السلام، او على الأقل التوقف المؤقت عن العمل العسكري. وحتى في الوقت الذي يصدر فيه الرئيس جورج بوش ومعاونوه تصريحات شديدة حول سوريا، فان منظري السياسة الخارجية من المحافظين الجدد، الذين وضعوا الأسس الفكرية للحرب ضد العراق، يقللون حالياً من احتمالات شن أعمال عسكرية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، على الأقل في المدى القريب. نقل الكاتب عن ارون فريدبيرج، استاذ الشؤون الدولية بجامعة برنستون، وهو من المحافظين الجدد قوله: لا اعتقد أن هناك شهية مفتوحة لدى غالبية الناس للعمليات العسكرية التي لا تنتهي. ولا يشعر بهذه الرغبة حتى أولئك الذين يعتقدون أن الحرب ضد العراق سارت بصورة جيدة. أضاف أن تلك النغمة الهادئة أدهشت البعض لان كل مفكري التيار المحافظ الجديد، تقريباً، ظلوا يصورون حرب العراق كفصل واحد فقط من صراع أوسع ضد ما يسمونه التطرف الأصولي. ولكن مجموعة من المقالات والتصريحات الصادرة عن هؤلاء المفكرين أنفسهم منذ سقوط بغداد، دعت إلى أن تعتمد الخطوات اللاحقة على الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية وليس على القوة العسكرية. (4) في مواجهة ما أطلق عليه البعض وصف الدبلوماسية الأمريكية الخشنة إزاء سوريا، هناك مدرستان. أولاهما الأشهر والأعلى صوتاً هذه الأيام - في الساحة العربية كلها للأسف - واسميها مدرسة التثبيط، وهي التي تنطلق من أن الولاياتالمتحدة قوة ينبغي ألا ترد لها كلمة او رغبة، وهي لم تعد تحتمل الحلول الوسط منذ أحداث 11 من سبتمبر (حين أعلنت على الجميع إما أن تكونوا معنا او ضدنا). وباسم القراءة الرشيدة للسلوك الأمريكي المستجد، يدعون إلى ضرورة التحلي بالواقعية، ومن ثم التجاوب مع الرغبات الأمريكية، التي وصفها بعضهم بأنها زعيمة العالم الحر. والتجاوب المطلوب له معنى واحد يتمثل في الانصياع. وهذا الانصياع له صورة واحدة هي الانبطاح. بمعنى أن يكون الانصياع دائماً ومطلقاً، بحيث لا يقبل الامتثال في أمر والتحفظ في أمر آخر. ان شئت فقل انه من قبيل الامتثال الصوفي، الذي تكون فيه علاقة المريد بشيخه كالميت بين يدي من يكفنه، فضلاً عن أن من اعترض انطرد! وهذا الذي أقوله ليس فيه أية مبالغة، لأنني شاهد على حالتين نموذجيتين في هذا الصدد، في عالمنا العربي والإسلامي بطبيعة الحال. حدث ذلك بعد 11 من سبتمبر، والبلدان اللذان اعنيهما هما إيران وقطر عربي إفريقي آخر. وقد تعاونا شأنهما في ذلك شأن بقية دول المنطقة مع الولاياتالمتحدة في حملتها ضد الإرهاب، ولكن إيران بحكم ثقلها وطبيعتها كان بمقدورها أن تتحفظ على بعض الطلبات، فعوملت بصد وغضب من جانب واشنطون، ورد مرشد الثورة على رسالتها بالمثل. أما البلد العربي الإفريقي المتعب سياسياً واقتصادياً فانه لم يستطيع أن يرد بكلمة، فاغرق بالطلبات التي تجاوز بعضها كل حدود، وكان مما لا يجوز أن تطلب دولة من أجهزة ومؤسسات أخرى. حتى بدا أن ضريبة الانبطاح لا سقف لها. ادري أن سوريا محصنة ضد الانبطاح المطلوب، ولو كانت بغير تلك الحصانة لانصاعت وامتثلت - وقبضت إن كان هناك قبض - منذ أمد بعيد، لكن هناك من يحاول أن يسترضي الولاياتالمتحدة من خلال وسائل ورسائل عدة، ترد وتفند الشبهات التي تثيرها واشنطون وأبواقها ضد دمشق قدر المستطاع. حتى أغلقت الحدود السورية مع العراق في وجه شيخ بلغ التسعين من عمره، هو أمين حافظ، الذي كان يوماً رئيساً للجمهورية السورية. لمجرد انه عاش نصف القرن الأخير بعثياً على طريق ميشيل عفلق، ومن ثم كتب على الرجل أن يموت خارج وطنه. حتى لا تقول واشنطون أن سوريا تسمح بمتسللين بدخول أراضيها. المدرسة الثانية ترفض الانصياع والانبطاح وتدعو إلى الصمود. وكنا في السابق نضيف التصدي والتحدي، لكننا أصبحنا نبتلع مثل هذه المفردات للأسباب التي يعرفها الجميع، بحيث لم يعد طموحنا يتجاوز حدود الثبات والتصدي. والذي نفهمه، والدرس الذي تعلمناه من التجربة العراقية أن للتصدي مقومات وشروطاً، أولها وأهمها قوة الجبهة الداخلية وتلاحم السلطة مع المجتمع. ولا نعرف حتى الآن صيغة نجحت في إحداث ذلك التلاحم ومن ثم توفير القوة المنشودة للجبهة الداخلية، أجدى واكثر فعالية من إرساء أسس الديمقراطية، التي بها يتحول الناس من رعايا تابعين إلى شركاء ومواطنين. لقد كانت امام النظام العراقي فرص لا حصر لها لإرساء الديمقراطية وتحقيق المصالحة الوطنية، لكنه أهدرها جميعاً، وآثر أن يبقى على المجتمع محبوساً في السراديب والزنازين، حتى كانت النهاية المهينة للنظام بكل رموزه. الأمر الذي وفر للأمريكيين فرصة ستر عورة الاحتلال وسوءته بذريعة تكسير السراديب وفتح الزنازين وتحرير الشعب العراقي. قديماً أرسل أحد الولاة إلى خليفة المسلمين عمر بن العزيز يستأذنه في جباية بعض الأموال من المسلمين لتحصين مدينته وتعزيز أسوارها في مواجهة ما قد تتعرض له من تهديد، فرد عليه الخليفة برسالة من ثلاث كلمات قال فيها: حصن ديارك بالعدل. ألا تستحق العبارة أن نكتبها على لافتة كبيرة تمتد بطول العالم العربي وعرضه، وان نحولها إلى نبراس للصمود، ونحن مقبلون على ما أسموه بمرحلة إعادة رسم الخرائط في المنطقة؟