هاتان رحلتان خارج المكان وخارج الزمن العربي بدرجة أو بأخرى، أولاهما إلى ألمانيا والثانية إلى أذربيجان. كل واحدة منهما كانت للمشاركة في مؤتمر لا علاقة له بالآخر. مع ذلك فقد وجدت أن ثمة قاسماً مشتركاً بين الرحلتين، هو أن ما رأيته وسمعته في عاصمتي البلدين كان أهم مما ذهبت لأجله ودعيت له. ولئن كان ذلك الذي رأيت وسمعت اقرب إلى النميمة او الثرثرة السياسية والثقافية، لكنه يرسم صورة لبعض المشاهد البعيدة عنا، التي قد يفيدنا أن نتعرف عليها، من باب السياحة الذهنية على الأقل. (1) الرحلة إلى ألمانيا كانت للمشاركة في ندوة بمناسبة مرور خمسين عاماً على ثورة يوليو، التي دعت إليها مؤسسة "فريدريش ايبرت"، وهي مؤسسة ألمانية أهلية تابعة للحزب الديمقراطي الحاكم ومدعومة حكومياً، وهي متعددة الأنشطة في مصر والعالم وبعض الدول العربية. والذين اشتركوا في حوارات الندوة كانوا من المثقفين المصريين والألمان المهتمين بالشئون المصرية والعربية، فضلاً عن جمهور كان بدوره خليطاً من الألمان والعرب. قيل في الندوة كلام جاد كثير في تقييم التاريخ والواقع، لكنه لم يكن صريحاً بما يكفي، حيث لم يخل من المجاملة والدبلوماسية، التي لم تمكن المتحاورين من النفاذ إلى عمق التطورات والتحولات التي حدثت في مصر بعد خمسين عاماً من الثورة، الأمر الذي ذكرني بلقاءات الرسميين التي يعلن في أعقابها "الحوار البناء، والتفهم المتبادل لوجهات النظر". وكان واضحاً أن كثيرين من الحاضرين أدركوا عنصر المجاملة والدبلوماسية في خطاب المتحاورين، فمنهم من كبَّر رأسه واستمع في صمت مجاملة للمتحدثين، ومنهم من حاول أن يحرك الأجواء والأمواج، فألقى ببعض الأحجار في بحيرة الحوار الساكن. أضفت على اللقاء بعض الحيوية عدة أنشطة فنية موازية، تمثلت في فرقة "قيثارة" الفنية المصرية، التي ضمت عدداً من المطربين والعازفين (الشبان والفتيات) الموهوبين والواعدين، والى جوار الفرقة كان هناك معرض للكاريكاتير والفن التشكيلي جذابا ونابضا بالحياة، جاء معبراً عن مدارس توجهات الفنانين المصريين خلال حقبة نصف القرن. كما رأيت، فلم يكن في الحدث شيء مثير، حيث كان اقرب إلى التظاهرة الثقافية والفنية العادية، التي يمكن أن يشار إلى فعالياتها في اسطر معدودة بأية جريدة صباحية. لكن ما بدا مثيراً حقاً هو ذلك الذي رأيته وسمعته خارج قاعة المؤتمر. (2) هي مصادفة لا ريب أن تزامن عقد الملتقى مع احتفال "للشاذين" في برلين. كما أنها مصادفة قطعاً أن كان الفندق الذي نزلنا فيه على بعد خطوات من شارع "كودام" الذي شهد طقوس الاحتفال الكبير. والشاذون هو وصف من عندي، او هو الوصف الذي درجنا على استخدامه. أما الوصف الذي يطلق عليهم في الغرب فهو انهم "مثليون"، لا يعترفون بالفوارق ، ويعتبرون أنفسهم جنساً أرقى من البشر العاديين، لأنهم ارتفعوا فوق التصنيفات التي تعارف عليها الناس منذ الأزل وفرقوا فيها بين الرجال والنساء. ما أن وضعنا حقائبنا في الفندق حتى سمعنا ضجيجاً هائلاً في الخارج، كان خليطاً من الموسيقات المدوية ذات الإيقاع الأفريقي، وبين الأغاني الصاخبة التي ترددت أصداؤها بقوة في سماء المدينة، محدثة جلبة تصم الآذان. قيل لنا ان ثمة مهرجاناً احتشد الناس له. أثار الضجيج فضولي فخرجت بحسن نية إلى الشارع لاستطلاع الأمر فشاهدت عجباً. كان الحشد هائلاً إلى حد انه ملأ الشارع وكاد يسد الأفق. الأغلبية كانوا مشاة بينما بعضهم اعتلى حافلات مزركشة كبيرة ركبت على ظهورها مكبرات الصوت. وهؤلاء الراكبون كانوا يغنون ويرقصون وجوههم مغطاة بالمساحيق، ويلوحون للجماهير بأيد فارغة حيناً، وأخرى ملوحة بزجاجات "البيرة" في حين آخر. لم افهم شيئاً مما رأيت، وبدوت كالريفي الذي يجد نفسه في قلب المدينة لأول مرة. لاحظ مرافقي وليد مظاهر الحيرة على وجهي، فمال على أذني هامساً في حرج: هؤلاء - لا مؤاخذة - الشاذون يحتفلون بيومهم السنوي. لم أكن أرى هذا الصنف من البشر من قبل. فصرت أحملق في المارين حتى أراهم جيداً. لم أصدق الذي سمعت ورأيت، فكتمت دهشتي ورحت أتأمل المشهد محاولاً استيعاب ما تراه عيناي، ولاحظت أن حشداً من مصوري الصحف ومحطات التليفزيون جاءوا يتابعون المسيرة ويسجلون الحدث، وأرعبتني فكرة أن تظهر صورتي وسط الحشد الواقف على الرصيف، الأمر الذي يثير التباساً ليس خافياً، لكني هدأت بالاً - بصورة نسبية - حيث حمدت الله إن كانت زوجتي إلى جانبي، الأمر الذي يفترض أن يعد براءة لي من سوء الظن، أعزكم الله وجنبكم موارد الشبهات! (3) تراجعت فكرة المؤتمر في ذهني، حيث أثار المشهد عندي عديداً من الأسئلة المعبرة عن حيرة الريفي حديث القدوم إلى المدينة. وتولى الزميلان وليد الشيخ وناجي عباس، وهما من الصحفيين الواعدين المقيمين في برلين، "تنويري" بما لم أكن اعرف. وكانت حصيلة ما سمعت أن الأمر أهون بكثير مما نتصوره في "قرُانا". وان الشواذ اصبحت لهم مؤسساتهم ومنظماتهم القوية والناشطة في أوروبا والولاياتالمتحدة. بل انهم صاروا مفضلين في بعض الوظائف وفي إعلانات السلع. فهم مفضلون كباعة في المحلات التجارية الكبيرة مثلاً، التي تعتبر انهم اكثر "نعومة" مع الزبائن، وظهورهم في الإعلانات يجذب جمهورهم الواسع، الذي يقدر بأربعة ملايين "شخص" (سكان ألمانيا 80 مليوناً). (4) بسبب قلة خبرتي بالشأن الألماني، لم اكن اعرف الكثير عن حساسية الألمان واستيائهم إزاء الأمريكان وسياستهم. بل إن انطباعي كان على العكس تماماً. ذلك أن "مشروع مارشال" الذي عرضته الولاياتالمتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بتدمير ألمانيا، كان له دوره الأساسي في تمويل مشروعات النهضة الصناعية الكبيرة التي تشهدها البلاد. حين أبديت هذه الملاحظة - بحسن نية أيضاً - امام أحد المثقفين الألمان الذين شاركوا معنا في المؤتمر، وجدته أشاح بوجهه ثم قال: لقد أرادت الولاياتالمتحدة بمشروع مارشال أن تتغلغل في أوروبا وتبسط نفوذها عليها لتدشين عصرها الجديد. ثم أن النهوض الذي شهدته ألمانيا هو ثمرة جهد العقول والسواعد الألمانية، وليس التمويل الأمريكي. كنت قد قرأت في أحد أعداد مجلة "نيوزويك" ملفاً أعد في أعقاب زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش لألمانيا في شهر مايو الماضي، كان عنوانه: لماذا يكرهنا الأوروبيون؟ وكان المحرك الأساسي لإعداد ذلك الملف هو الاستقبال الفاتر والعدائي الذي قوبل به الرئيس بوش في ألمانيا بوجه أخص. أمدني وليد الشيخ بنتائج استطلاعات الرأي الألمانية التي نشرت بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكي، وكان بينها استطلاع نشرته مجلة "دير شبيجل" في 21/5 حول نظرة المجتمع للولايات المتحدة، وقارنته باستطلاع اجري في عام 1993 من أهم نتائجه ما يلي: @ 73% من الألمان قرروا هذا العام أن الولاياتالمتحدة تتعامل مع بلدهم من موقع الاستعلاء والهيمنة، وكانت هذه النسبة 53% فقط عام 1993. @ الذين قالوا إنها تتعامل مع ألمانيا باعتبارها نداً متكافئاً كانت نسبتهم هذا العام 26% فقط، بينما كانت هذه النسبة 46% عام 1993. @ 65% قالوا إن الولاياتالمتحدة تتحرى مصالحها فقط، ولا يعنيها الآخرون، مقابل 58% أيدوا هذه المقولة في الاستطلاع السابق. @ في الإجابة عن سؤال عما اذا كانت الولاياتالمتحدة تشكل ضماناً للأمن والسلام في العالم رد 48% بالإيجاب، مقابل 62% عام 93. أما الذين نفوا ذلك فقد كانت نسبتهم 50% مقابل 37% في الاستطلاع السابق. @ في سؤال حول رأي الأوروبيين في جورج بوش، فان الذين ردوا بالإيجاب كانت نسبتهم 46% في إيطاليا، و 38% في بريطانيا، و26% في فرنسا، أما اقل النسب حماساً فقد كانت في ألمانيا (19%) وأسبانيا (14%). بسبب هذا الشعور الرافض للسياسة الأمريكية في ألمانيا فان زيارة الرئيس بوش أحيطت بإجراءات أمن غير مسبوقة، وتم اختصارها إلى 19 ساعة بدلاً من يومين. كما أن الرئيس الأمريكي استشعر حرجاً كبيراً حين ذهب لإلقاء كلمته امام البرلمان الألماني، وفوجئ بثلاثة من أعضاء حزب الاشتراكية الديمقراطية وقد رفعوا لافتة كبيرة من القماش الأبيض داخل قاعة البرلمان وقد كتبت عليها عبارة تقول: "مستر بوش + مستر شرودر أوقفوا حربكم"، كما أن أحد ممثلي حزب الخضر غادر القاعة احتجاجاً على التصفيق الذي قوبل به الرئيس الأمريكي، وقال لمن سألوه انه من غير المعقول أن يصفق الأعضاء لبوش وما يمثله من سياسية. (5) تستطيع في ألمانيا أن تقول أي شيء يخطر على بالك، إلا أن تنتقد اسرائيل. فأنت في هذه الحالة متهم بما يشبه المروق والكفر، ومن ثم فانك تدفع ثمناً باهظاً لقاء ذلك، قد يصل إلى حد الاغتيال السياسي. وهذه القصة التي ما زالت تلوكها الألسن دالة على ذلك. في شهر أبريل الماضي عبر يوركن مولمان نائب زعيم الحزب الديمقراطي عن مساندته للعمليات الاستشهادية، وقال انها عمل طبيعي من جانب شعب بلد محتل. وهو ما اعتبره ممثل المجلس المركزي ليهود ألمانيا تصريحاً خطيراً. ثم تفاقم الموقف حين انسحب عضو البرلمان الألماني سوري الأصل جمال قارصلي من حزب الخضر، احتجاجاً على السياسة الموالية لإسرائيل التي يتبعها يوشكا فيشر وزير الخارجية، وزميله في الحزب. وفي الوقت نفسه قدم قارصلي طلباً للانضمام إلى الحزب الديمقراطي الحاكم. إزاء ذلك صعد مجلس يهود ألمانيا حملته ضد الحزب الديمقراطي. وزاد الطين بلة أن قارصلي أدلى بحديث لإحدى الصحف دعا فيها ألمانيا لان تتحلى بالشجاعة مرة واحدة فتدين مذبحة جنين، وتطالب الاتحاد الأوروبي بمعاقبة اسرائيل على جرائمها. وعندما سئل عما اذا كان يعتبر الألمان جبناء فيما يخص اسرائيل، فرد بالإيجاب. لم يقف الأمر عند ذلك الحد، وإنما ذهب في جرأته إلى انتقاد هيمنة اللوبي الصهيوني على الإعلام الألماني، وقال انه يتفهم خجل الألمان من ارث المرحلة النازية، وتساءل: إلى متى سيظل الألمان يحملون ذلك العبء؟ مشيراً إلى أن ارتكاب جريمة لا يبرر ارتكاب جريمة أخرى، وإذا كان المرء ضد الإرهاب النازي فلا بد له أن يدين إرهاب شارون. قامت القيامة حين قال قارصلي هذا الكلام، فدعاه رئيس برلمان الولاية إلى التخلي عن ولايته النيابية (وهذه سابقة تحدث لأول مرة) واتهمه وزير الخارجية فيشر بانعدام المسئولية السياسية والأخلاقية (!). وشن عليه المجلس اليهودي حملة شعواء استخدمت فيها كل أسلحة التشهير والابتزاز، انتهت بسحب قارصلي طلب انضمامه للحزب الديمقراطي، وبقائه كنائب مستقل، بعد الزوبعة التي أثارتها تصريحاته وهددت بانقسام الحزب. لكن المجلس اليهودي لم يغفر له فعلته، ولا قبلت من مولمان اعتذاره لليهود، ومازالت تهمة معاداة السامية تلاحق الرجلين، اللذين غامرا بمستقبلهما السياسي حين قالا كلمة حق كسرت "المقدس" في الخطاب السياسي الألماني. أهم ما فعله قارصلي بعد ذلك انه كتب رسالة نشرتها معظم الصحف الألمانية قال فيها : ان الحملة ضده أثبتت أن انتقاد سياسة اسرائيل اصبح من المحرمات، وصار ذريعة للاتهام بمعاداة السامية، كما وجه سؤالاً إلى وزير الخارجية الألماني قال فيه: لماذا كان قتل المسلمين في البلقان انتهاكاً لحقوق الإنسان بينما اعتبر في فلسطين إجراءات انتقامية عادلة، ووسائل وقائية للدفاع عن النفس؟ لم يجب الوزير بطبيعة الحال!