تناولت في مقالي السابق أول أسباب فشل إصلاح التعليم العام بالمملكة العربية السعودية والذي تمثل في مركزية وبيروقراطية القرار التربوي، وسأتناول في مقالي هذا السبب الثاني والذي يتمحور حول عدم تمهين القيادة التربوية بمدارس التعليم العام. تتفق مداخل الإصلاح التعليمي على أن الإصلاح المرتكز على المدرسة يعد من أكثر مداخل الإصلاح فاعلية في تحسين وتجويد مخرجات التعليم، وأدركت وزارة التعليم أهمية مدخل الإصلاح المرتكز على المدرسة، والذي ينطوي على عدة نماذج منها: المدرسة المستقلة، والإدارة الذاتية، ومدرسة المستقبل، والمدرسة المتعلمة. وتبني مشروع تطوير التعليم الفلسفة التي تقوم على تحويل المدرسة إلى مدرسة متعلمة، ومفهوم مجتمعات التعلم المهنية؛ إلا أن جهود وزارة التعليم ومبادراتها الإصلاحية، ومشاريعها التطويرية ما زالت بعيدة عن تطبيق هذه الفلسفة ونقل مضامينها النظرية للممارسة والتطبيق، وجعلها ثقافة مستدامة بالمدارس. ورغم ما أولته الوزارة من اهتمام واضح بتطوير المناهج والعمل الجاد لتدريب وتطوير أداء المعلمين، وتحويل مسمى مدير المدرسة إلى قائد المدرسة؛ إلا أن القيادة المدرسية لم تحظى بذات القدر من الاهتمام بتمهين القيادة التربوية بشكل فعلي – ليس مجرد تغيير في المسمى – ، فمازالت إدارات التعليم في كثير من مناطق المملكة تتعامل مع مفهوم "قائد (مدير) الضرورة" وهذا يعكس العزوف عن العمل بالقيادة المدرسية بين المعلمين ناهيك عن إحجام الوزارة عن ترشيح المعلمين الأكفاء والذين لديهم الرغبة، ويمتلكون شخصيات قيادية للترشح للعمل الإداري لأن تخصصاتهم تمثل ندرة ويصعب تعويضهم. السؤال الذي يطرح نفسه لماذا يترشح المعلم ليصبح وكيلاً لمدرسة ومن ثم قائداً ؟ في حقيقة الأمر لا يوجد أي حافز مادي أو معنوي يميز وكيل أو قائد المدرسة، والدافع الحقيقي الذي يدفعهم للعمل القيادي هو البحث عن المكانة الاجتماعية ، والسعي لتحقيق ذواتهم، وسرعان ما يشعرون بالإحباط بعد تحمل مسؤولية وممارسة العمل القيادي ، لعظم وحجم المسؤوليات، وكثرة الصعوبات، والتحديات فيصبح غارقاً في أعباء إدارية بعيدة كل البعد عن الدور الفني المنتظر من قائد المدرسة في تحسين وتجويد مخرجات التعليم . ومن الواضح أن الآلية التي تنتهج الوزارة في ترشيح القيادات التربوية آلية عقيمة تقوم فقط على سد الاحتياج، فمع مرور الوقت أصبح جميع قادة المدارس نسخ مكررة تستنسخ من معلم أصبح وكيلاً دون سابق إعداد فضلاً عن وجود معايير علمية للاستقطاب والاختيار و التعيين فيحاكي نموذج القائد الذي يعمل معه ثم يصبح قائداً فيتكرر هذا النموذج بالمدارس. إن تمهين القيادة التربوية يقتضي أن تميز وزارة التعليم ، ووزارة الخدمة المدنية وكلاء وقادة المدارس في مسمياتهم الوظيفية ، و مميزاتهم المادية ، وما يقدم لهم من حوافز معنوية، وإعطاء المدارس مزيداً من الاستقلالية ، والتحرر من المركزية التي يعاني منها قادة المدارس. هذا التمييز بات حتمياً وضرورة ستوسع من قاعدة العرض؛ مما يجعل الوزارة قادرة على رفع سقف معايير الاستقطاب ومتطلبات إشغال الوظائف القيادية بالمدارس، وهذا بدوره يضمن حسن الاختيار والتعيين ، و يمهد الطريق للإعداد والتهيئة وفق أسس علمية احترافية تنمي الجانب الفني المفقود لدى معظم قادة المدارس. لم تعد أدوار قائد المدرسة قاصرةً على تسيير الأمور، والمحافظة على أوقات الدوام، ومتابعة انتظام المعلمين؛ بل تحول إلى القيادة التربوية التي توطن مفهوم التنمية المهنية المستدامة، وتحول المدرسة إلى مدرسة متعلمة تجعلها في حالة تعلم دائمة، وتخلق الثقافة الإيجابية التي تشجع المعلمين على تغيير ممارساتهم التقليدية، وتقودهم للتجريب والمخاطرة من خلال إنتاج المعرفة والإبداع و الابتكار. بات من الضروري لإصلاح التعليم تمهين القيادة التربوية بتبني ممارسات إدارة الموارد البشرية من حيث التأهيل، والاستقطاب، والاختيار، والتعيين، والحوافز المادية والمعنوية؛ لما يعول على القيادة التربوية في قيادة التغيير المرتكز على المدرسة، وقيادة المدارس بمهنية تولي عمليتي التعليم والتعلم جل اهتمامها بعيداً عن الانهماك في الأعمال الإدارية التي لا تنعكس على تجويد مخرجات المدرسة وتضمن التعلم لكل طالب.