أجمع متخصصون على أن للأسرة دور كبير وضروري في تعزيز الأمن الفكري وزيادة وعي الأبناء وحماية عقولهم من الانحرافات الفكرية، وكذلك دور أعظم في محاربة ظواهر التطرف والتي تمثل في أقل حالاتها الانحرافات السلوكية والتعصب الرياضي مثلا، وفي أعلى مستوياتها التكفير والتفجير والقتل والإرهاب. وشدد المتخصصون في العلوم الاجتماعية والنفسية والأمنية على أن افتقاد لغة التواصل عبر أسلوب الحوار داخل الأسرة الواحدة هو أحد العوامل الأساسية في نمو وظهور أفكار منحرفة بين الشباب، إضافة إلى أن غياب الحوار الجاد والهادئ المستمر بين الشاب وأسرته قد يزيد من ظاهرة خطيرة كالتطرف والإرهاب. ويرى الاستشاري النفسي د. عبدالرحيم الميرابي أن الحوار يعد من أهم ركائز صناعة شخصية الأبناء داخل أسرهم، إذا ما أتاح الوالدان للطفل أن يعبر عن رأيه بكل حرية وشفافية وسط أسرته التي تعتبر المدرسة الأولى في أولى مراحل نموه العقلي والوجداني. وهذا يتطلب أن يكون الوالدان مؤمنين بأهمية الحوار، في حياة أبنائهم لبناء مستقبلهم داخل الأسرة على أسس متينة من مفهوم الإقناع والاقتناع اللذين يؤديان بالضرورة إلى قبول الآخر خارج الأسرة أياً كانت ثقافته ومبادئه واتجاهاته وطرائق تفكيره، فإذا ما تم تنشئة الأبناء على هذا النحو من البناء التكاملي؛ فإنه ينتهي بهم إلى القدرة على حل مشاكلهم ومعوقات نجاحاتهم ابتداء من محيطهم المحلي وانتهاءً بالوطن الكبير، بل ويؤدي بهم إلى التعايش خارج حدودهم الجغرافية والسياسية مع بقية أوطان وشعوب العالم. ويؤكد الميرابي أن تلك هي ثمرة البذرة التي غرست داخل البيت الصغير على أوجهٍ من الخير والمحبة والتعايش والسلام مع جميع الشركاء في هذه الحياة، أياً كانت انتماءاتهم وولاءاتهم، مضيفا بأن أهمية كل ما تقدم من غرسِ وإشاعةِ ثقافة الحوار بين الأبناء والآباء، ترجع إلى لفظ كل ما من شأنه نشوء بوادر تطرفٍ وتعصبٍ وكراهيةٍ تجاه أفراد المجتمعات أينما وجدت. مشيرا إلى أن بعض أنماط الشخصية، سواء لدى الأبناء، أو الآباء، التي تحمل بعض مكونات الاضطرابات النفسية ذات الطابع العدائي تجاه المجتمع والمثل والقيم والأخلاق، فإنها تحتاج إلى نوع مختص من التنشئة، كون العلاج في مثل هذه الحالات شاقا. ويؤكد المستشار التربوي والإعلامي د.سعود المصيبيح والذي قدم برنامج "دعوة للحوار"، نفس الرأي بأن ثقافة ولغة الحوار واعتمادها داخل الأسرة أمر مهم جدا لفتح آفاق المعرفة وتغيير سلوك وإتجاهات الأبناء وهي أكثر سهولة من التأثير عليهم من الذين يستهدفونهم. ويرى أن محاربة التطرف تبدأ من المدرسة من المرحلة الإبتدائية في تعليم النشء كيفية الحوار وإحترام وجهة النظر الأخرى وتعليم الأطفال فقه الإختلاف لإبعادهم عن التطرف والغلو والتشدد، وأن يدرك الطفل أن هناك آراء فكرية مختلفة حيال مختلف قضايا المجتمع وهذا سيعطيه مساحة للتفكير والحوار مع والديه وبقية أفراد المجتمع. ويعلل المصيبيح دعوته للاهتمام بالمدرسة أولا كون الأب والأم كانوا في الدراسة في وقت سابق، وإذا تم إعدادهم بشكل جيد فإنهم سيكونون والدين واعيين مدركين لأهمية إحتضان أولادهم والحوار معهم، مطالبا الإهتمام بالمعلم وتدريبه والعناية به وإبعاد المتشددين والمتطرفين عن الميادين المهمة مثل التعليم وغيره. وأن تكون المعايير قوية وحازمة وبالذات في اختيار معلم العلوم الشرعية الذي يراه الطالب قدوة له فإذا كان ضبابيا متلونا غير واضح في إنكار التطرف والغلو فإن درجة التأثير السلبية على الطالب ستكون كبيرة وقد تحبط جهود الأسرة في تنشئة أبنائها. وحذر المصيبيح من إهمال الحوار داخل الأسرة ومن التقليل من شأنه في اكتشاف وحل مشكلات كثيرة كامنة عند الشباب، مشددا على ضرورة رعاية الأبناء نفسيا واجتماعيا ومعرفة آرائهم وأفكارهم من قبل والديهم، إضافة إلى الإهتمام بوسائل الترويح ورعاية المواهب وتشجيع الفنون لفتح مجالات الحياة وحبها، وإلا فإن إهمال احتضان الأبناء من خلال الحوار وغياب الصراحة والوضوح في مناقشة مشكلاتهم ومحاورتهم عن حقيقة ذلك، قد يوقعهم في أحضان الجماعات التكفيرية التي تستهدف هذه الفئة في عمر المراهقة والبلوغ حيث الجهل والحماسة. ويشدد أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية د. محمد العتيق على أن الأسرة مهما كان حجمها فهي الأساس في بناء وتطور المجتمعات، ولها دور رئيس في اكتشاف ومعالجة كثير من المشكلات التربوية والاجتماعية، وبدون مشاركتها وتحملها للمسؤولية الاجتماعية الشاملة يصعب مواجهة مشكلات المجتمع صغيرة كانت أم كبيرة. مؤكدا بأن دراسات كثيرة ربطت بين كثير من مشكلات المجتمع مثل الانحرافات السلوكية والجريمة وبين دور الأسرة في التصدي لها، لذا فالأسرة الصغيرة دورها عظيم ضمن المجتمع الكبير. ولا يمكن إغفال دورها إطلاقا، ويعتقد العتيق بأن الوالدين والذين يمثلان أهم مكونات الأسرة لها الدور الأعظم في تحليل شخصية أبنائهم من خلال الحوار معهم ومساعدتهم على إبداء آرائهم و وأطروحاتهم والحديث معهم أو مع أقرانهم واكتشاف رؤيتهم للواقع وتطلعاتهم ومدى مناسبتها للمجتمع المحيط بهم، ومدى تقبل المجتمع لمثل هذه الآراء والتطلعات وكيف يمكن صياغتها وتحقيقها. مشيرا إلى أن هذا الأسلوب قادر على اكتشاف بوادر مشكلات كامنة وخطيرة مثل التطرف والتعصب وهما كلمتان أسبابهما الإصرار على الرأي أو الانحياز لرأي أو الميل إلى رأي معين، وخلال ذلك يستطيع الوالدين من معالجة أي مشكلة قبل حدوثها ومن هنا جاء الدور العظيم للأسرة، وللأسرة دور وقائي مهم بالدرجة الأولى عبر متابعة وتأهيل وتحصين أبنائها من الانحرافات الفكرية والسلوكية، كما يؤكد العتيق. ويرى العتيق أهمية الحوار داخل الأسرة بين الوالدين والأبناء والذي يسهم في تكوين شخصية الأبناء السوية، وحمايتهم من الانحرافات الأخلاقية والسلوكية ومن مظاهر التعصب والتطرف وحتى من ظاهرة الإرهاب الخطيرة التي وقع ضحيتها عدد من الشباب بعيدا عن معرفة أسرهم. مشيرا إلى أن هذا يتوقف على مدى ثقافة الوالدين واطلاعهم وخبرتهم وقدرتهم على ممارسة الحوار الجاد والفعَال بدون ممارسات العنف والعصبية ضد أبنائهم، لأنه ليس كل حوار يؤدي إلى جوانب إيجابية. مؤكدا على الدور الذي يقوم به مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني الذي يقدم برامج حوارية وتدريبية متخصصة في الحوار الأسري ومهارات الاتصال وكيفية التعامل مع الأبناء وتأهيلهم للحوار مع أفراد المجتمع الآخرين، وأنه يجب أن تشمل هذه البرامج المزيد من الأسر وفي كافة مناطق المملكة، وأن التطرف اختطف عدد من الأبناء المراهقين والشباب مستغلا جهل أسرهم بحالهم وأوضاعهم. وشدد العتيق على أن غرس ثقافة الحوار لا بد أن يكون مبني على أساس المبادئ الإسلامية للحوار حين حدد حقوق الآباء والأمهات والأبناء والجار والعامل والبيئة والمجتمع، فمتى ما بني الحوار على الأسس الصحيحة التي تعطي كل ذي حقاً حقة وبني على الأدبيات الفعَالة والاحترام وقبول الرأي الآخر الذي يحقق المصلحة العامة وينشر ثقافة الحوار البناءة فإن ذلك سيكون له الأثر العظيم على الأبن والأسرة والمجتمع. وترى المدربة في مهارات الحوار والاتصال دولت أبوغمري أن تكريس ثقافة الحوار بين أفراد الأسرة من أهم الأساليب الناجحة في مقاومة الغلو والتطرف، ويعد ركنا أساسيا في الدعوة بالتي هي أحسن، مضيفة بأنه ومنذ بزوغ فجر الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمد هذه الثقافة في عرض هذا الدين الجديد. وتقول أبو غمري أن وجود الحوار يساعد على ظهور نقاط الالتقاء والاختلاف وكيف يمكن معالجتها ووضع الحلول لها، بينما في حال غيابه يصبح الفرد متلقيا فقط للأوامر ومنفذا لها وهذا ما يعانيه المجتمع اليوم مع المتغيرات العصرية التي جعلت من "فلذات أكبادنا قنابل موقوتة". ولكن لو وجد الشاب الطفل من يحاوره في أسرته ومجتمعه لوجد النور والسلام واستطاع أن يضع النقاط على الحروف ولأصبح درعاً متيناً في مواجهة المغرضين وإرهابي الفكر لأنه يحمل وعبر الحوار الفعال سوف يحمل فكرا سويا منيعا تمخض عن حوار سليم لا يوجد فيه إلزام أو تشدد وينبذ كل غلو وتطرف. وطالب د. محمد العتيق المؤسسات المعنية الأخرى بالتعاون فيما بينها مثل الشؤون الاجتماعية والتعليم والاهتمام بواقع الأسرة وأبنائها داخل المجتمع والعمل على إيجاد أفضل السبل لتقديم الدعم لها وتحسين الظروف المحيطة بها، الأمر الذي يساهم بشكل أكبر في التأثير على دورها في تربية أبنائها وتأهيلهم في مجتمعاتهم، وتهيئة الأسرة للقيام بدورها يؤدي إلى تهيئة أفراد المجتمع ككل، فلا يمكن فصلها عن المجتمع. وبخصوص دور التعليم في مساندة جهود الأسرة يرى د. عبدالرحيم الميرابي أن الأدوار لا تنتهي عند جهة بعينها، أو زمان بذاته، أو مكان محدود أو واسع الإطار، وإنما يجب أولاً بناء هذه المؤسسات سواءً الأسرية، أو التعليمية، أو الإجتماعية، أو الإصلاحية، أو السجون، أو الأندية الأدبية والثقافية والرياضية والفنية، والمسارح وغيرها، كونها من أهم أسباب بناء الشخصية إيجاباً، أو سلباً. ولذلك يجب أن تضع الدولة خططاً تجعل فيها هدفاً تشترك في رسمه كل هذه الجهات معاً وتتبادل المعلومات حوله، وتكون على تواصل دائم، وأن تقدم كل مؤسسة النصح للأخرى في إطار تحقيق الهدف المرسوم من جهة واحدة هي الدولة، وإلا كان عمل كل واحدة منفردة قابلاً للكسر واحداً تلو الآخر. في حين يعتقد د. سعود المصيبيح أنه في حال تطور التعليم وغرست فيه سبل ومبادئ الحوار سيسهل ذلك عمل المجتمع ككل وفي الأسرة بشكل خاص. فالتعليم هو الذي يعد الخطيب والإعلامي والمفكر والفنان والداعية ورجل الأعمال والأب والأم طبعا، وبنفس الوقت يجب الحزم مع دعاة الغلو والتطرف الذين قد يتأثرون بالإنترنت أو بأفكار متشددة تكفيرية وأن يتم إبعادهم عن منابر التأثير وبالذات بعض المتشددين الذين يخرجون للحديث عن المرأة وعملها وعورة الرجل وكلام لا يمكن قبوله الأمر الذي يتسبب بمزيد من الإحراج أمام العالم حيث لا تختلف بعض هذه الأفكار عن داعش وطالبان. ومن ناحية أخرى أكد مدير أكاديمية الحوار للتدريب واستطلاعات الرأي العام بمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني إسماعيل العمري أن موضوع الحوار الأسري يمثل أحد المواضيع المهمة داخل المركز، كما يمثل أحد البرامج التدريبية المتخصصة في الأكاديمية، والتي تأتي تماشياً مع أهداف المركز بتوطين ثقافة الحوار وتكريسها في المجتمع بجميع أطيافه وفئاته لا سيما داخل الأسرة الواحدة التي هي نواة المجتمع. وأشار العمري إلى أن هذه القضية تعد إحدى المسارات التي أطلقها المركز في التدريب على ثقافة الحوار الأسري، وهو مسار تدريبي متخصص لنشر ثقافة الحوار والتعرف على مهارات وقيم ومبادئ الحوار بين أفراد الأسرة الواحدة، وتكريس قيم ومبادئ وآداب الحوار الناجح والمثمر بين أفراد الأسرة من أجل جعل الحوار هو اللغة السائدة في حل القضايا والإشكالات الأسرية المتعددة والمختلفة والمتجددة. وانطلاقا من ذلك صممت الأكاديمية عدة برامج تدريبية وتأهيلية متخصصة في تنمية مهارات الحوار الأسري تهدف جميعها إلى ترسيخ مفهوم الحوار داخل الأسرة، ومن هذه البرامج المتخصصة في الحوار الأسري: الحوار الزوجي، وحوار الآباء مع الأبناء. وكذلك البرنامج التدريبي (المحاور الناجح) حوار الأبناء مع الآباء، إضافة إلى برنامج لتأهيل المدربين والمدربات على التدريب على برامج الحوار الأسري تحت مسمى (برنامج المستشار المعتمد لتدريب على برامج الحوار الأسري).