تشهد الليرة السورية في الفترة الأخيرة انخفاضا حادا وسريعا في قيمتها أمام الدولار الأميركي لم تعرفه البلاد منذ بدء الأزمة عام 2011. وقد أدى هذا الانخفاض السريع إلى حالة من البلبلة بين المصرف المركزي والسوق السوداء من جهة، وبين والتجار والمواطنين من جهة ثانية؛ حيث توقف كثير من التجار عن بيع السلع بانتظار استيضاح المستوى، الذي سيقف عنده الدولار. وإلى الآن لم يستطع "مصرف سورية المركزي" تحسين سعر الليرة على الرغم من تدخلاته المستمرة بالسوق. ويتوقع خبراء اقتصاديون استمرار تدهور الليرة في ظل ما وصفوها بالسياسات الاقتصادية الفاشلة. والمشكلة التي يواجهها البنك المركزي السوري تتمثل في عدم امتلاكه سيولة كافية لضخ كميات كبيرة من العملة الصعبة إلى السوق. وحتى لو توفرت هذه السيولة لديه، فإن السوق بفعل الحرب سرعان ما ستبتلعها وتطالب بأخرى. وفي المقابل، لا تسهم السيولة المحدودة، التي يضخها البنك، في تلبية حاجات السوق التجارية أو حتى غير التجارية. وفي الأزمات الكبرى، تعمد بعض الحكومات، إلى تأمين وضع اقتصادي مريح لأذرعها الأمنية والعسكرية والسياسية. وفي بلد أصبحت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية معسكرة، سرعان ما تنشأ مافيات تعتاش على المواطنين، فتتحول الحواجز الأمنية-العسكرية إلى حواجز عبور اقتصادية، وخاصة لدى التجار؛ الأمر، الذي يرفع من سعر البضائع. وإن أهم النتائج وأسرعها آثارا نتيجة هذا التدهور في العملة المحلية تظهر في ارتفاع سلع المواد جميعها، سواء كانت سلعا رئيسة أم تكميلية، في وقت لا تزال طبقة كبيرة من الشعب السوري تعمل في وظائف الدولة، وتتلقى رواتبها بالعملة المحلية، التي أصبحت قوتها الشرائية لا تتناسب مع الواقع الاقتصادي في البلاد. وقد أثر هذا التدهور سلبا أيضا على توفر السلع الغذائية والوقود في الأسواق، كما رفع من معدلات البطالة التي تجاوزت مستوى ال 70%. وبحسب خبراء اقتصاد سوريين، فقد أثر تدهور العملة السورية إلى تضخم فاق 500 في المئة، وفي بعض الحالات تجاوز ألفا في المئة. بينما وصل هذا التضخم داخل المناطق المحاصرة إلى 4000 – 8000 في المئة. وقد جعل استمرار تدهور قيمة الليرة ما يزيد على 80% من الشعب السوري يعيشون تحت خط الفقر. ولم تستطع الدولة رفع رواتب الموظفين بما يتناسب مع الواقع الاقتصادي، خصوصا أن الجزء الأكبر من الشعب السوري المقيم داخل سوريا هم من فئة الموظفين، وانهيارهم الاقتصادي يساهم في انهيار الحياة الاقتصادية بمجملها. هذه الحال دفعت الكثيرين داخل الدولة إلى توجيه نقد لاذع إلى الحكومة، نظرا إلى زيادة الفجوة الكبيرة بين أسعار المواد بشكل عام قياسا بالمرتبات، التي يتقاضونها، وعدم قدرة الحكومة على ضبط الوضع. ويجب القول إن أزمة انخفاض الليرة مقابل الدولار ترتبط في الجزء الأكبر منها بحالة الحرب التي تعيشها البلاد، وضعف الاحتياط النقدي للعملة الصعبة في خزينة الدولة، وتكالب التجار على الدولار؛ فضلا عن عمليات تهريب الليرة إلى خارج البلاد وتحويلها إلى الدولار. والأهم من ذلك – الهوة بين سعر صرف الدولار عند الدولة وسعر صرفه في السوق السوداء. ومع أن الأجهزة المختصة تحاول تطويق السوق السوداء، فإن عملية ضبطه بشكل كامل أمر مستحيل. ويتجه كثير من المواطنين، وخاصة من الطبقة الوسطى أو الغنية، إلى تصريف الدولار في السوق السوداء أو خارج البلاد، ولا سيما في لبنان. كل هذه العوامل وغيرها ساهمت في استمرار تراجع الليرة السورية .. و مع بدء العملية العسكرية الروسية في سوريا ، حافظت العملة المحلية على استقرارها. غير أن الخروج الروسي المفاجئ لم يُعد الأمور إلى سابق عهدها، أي الانخفاض التدريجي والبطيء للعملة، بل أدى الانسحاب إلى هبوط سريع في قيمة الليرة مقابل الدولار. وانخفضت العملة المحلية حينها في السوق السوداء من 445 ليرة أمام الدولار إلى 475 ليرة، ثم إلى 495 ليرة قبل أحد عشر يوما بالضبط، ليستمر سعر صرفها في التدهور إلى 525 للشراء و530 للمبيع. بيد أن نتائج سياسية معاكسة أو إيجابية قد تؤثر على قيمة الليرة السورية فقد يؤدي تراجعها إلى ضغط سياسي على دمشق للدخول في تسوية سياسية معقولة تفتح الباب أمام مرحلة جديدة في تاريخ الأزمة.