ليس من السهل تبسيط المعادلات المعقدة التي تخضع لها الرؤية الاستراتيجية لأي دولة في العالم بصرف النظر عن حجمها. ذلك أن تلك المعادلات تكون عادة ناجمة عن تفاعل عوامل دولية وإقليمية وتوازنات داخلية ورؤية أبعد مدى من أن تقاس بمعطيات اللحظة. وتنطبق تلك القاعدة على العلاقات الروسية – الأميركية التي تشهد تدهورا متصلا في السنوات الأخيرة مع نشر بطاريات منظومة الدفاع الصاروخي التابعة لحلف شمال الأطلسي في الخاصرة الغربيةلروسيا ومن ثم إلغاء موسكو لاتفاقية الأسلحة التقليدية في أوروبا. على الرغم من ذلك فإن القضية المحورية التي تقف خلف تلك الخلافات هي قضية ما تسميه موسكو بالتكامل "الطبيعي" بينها ودول المنطقة المسماة "ايروآسيا" التي تمتد على مدى حدود الإمبراطورية السوفييتية التي قامت خلال القرن الماضي ثم انهارت في 1990. وبينما تجد روسيا ذلك التكامل طبيعيا فإن الولاياتالمتحدة لا تعتبره كذلك أو بالأحرى لا ترى أنه يبرر استخدام سياسات الإرغام والضغط من قبل موسكو عند تعاملها مع دول تلك المنطقة الحيوية. توازن نسبي إلا أن ما كان يمكن أن يكون خلافا مفهوما يحل في الأروقة الدبلوماسية ما لبث أن اكتسب أبعادا جديدة مع تزايد الوزن النسبي لآسيا اقتصاديا ومع توجه الأنظار إلى مصادر الطاقة لدى بعض بلدانها. فاحتياطات أذربيجان وطاجيكستان وتركمانستان من الغاز الطبيعي مثلا بات لها مغزى مختلف مع صعود الصين والهند وزيادة طلبهما على مصادر الطاقة لتشغيل الآلة الاقتصادية الكبيرة التي لا تكف عن النمو في كل منهما بل وفي القارة الآسيوية بصفة عامة. ذلك أن الجميع يدركون الآن أن مركز الثقل الاقتصادي في العالم ينتقل تدريجيا صوب الشرق وأنه لم يعد "حبيس" الإطار الغربي التقليدي الذي ساد منذ القرن السابع عشر. ومع هذا الصعود بات تحديد أدوار اللاعبين الكبار أمرا ضروريا. ومع ظهور تلك الضرورة وتأكدها خلال العقد الأخير كانت موسكو تتصرف على نحو ترك انطباعا في واشنطن بأن ما هو "طبيعي" يجب أن يظل كذلك. فيما كانت بكين بدورها تتصرف على نحو يؤكد ثقتها في ذاتها ومن ثم النزوع للعب دور إقليمي متزايد لتأمين احتياجاتها من الطاقة ومن الموارد الأولية الأخرى. فضلا عن ذلك فقد كانت أسواق المنطقة على وجه العموم تعد أيضا بأن تتحول إلى عامل فعال في الدورة الاقتصادية العالمية ليس من حيث استقبال المواد الأولية وموارد الطاقة فحسب ولكن من حيث استيراد كل شيء. علاقات مصنفة ويقول الروس إن هناك أكثر من مبرر لوضع علاقات روسيا بدول الإقليم في "تصنيف خاص" بالنظر إلى التراث السوفيتي والروابط الثقافية والعلاقات الاقتصادية والقرب الجغرافي. بيد أن واشنطن تعتقد أن على موسكو أن تفتح الميدان ليصبح ملعبا للتنافس المتوازن وأن تكف عن استخدام أساليب الضغط والتدخل لحسم مسار الأمور في هذه الدولة أن تلك من دول المنطقة. وثمة أمثلة لا حصر لها على الاحتكاكات بين البلدين خلال العقد الأخير من جورجيا إلى مولدافيا إلى أوكرانيا إلى قيرغيزيا. فتارة هناك قروض ميسرة وتارة أخرى هناك دعم مالي لأحزاب بعينها وتارة ثالثة هناك تشدد في فرض أسعار لصادرات الطاقة الروسية إلى هذا البلد أو ذاك طبقا لمدى "تفهم" قيادته لطبيعة العلاقات "الخاصة" مع موسكو. ومن وجهة نظر دول الإقليم ذاتها فإنها كانت تسعى بطبيعة الحال إلى صياغة علاقاتها الخارجية – لاسيما مع الولاياتالمتحدة – باستقلال تام. بيد أن أغلب تلك الدول تشعر أن موسكو تمارس ضغوطا من قبيل التحكم في إمدادات الطاقة أو المسارات التجارية ومن قبيل دعم قوى سياسية معارضة. وفيما يرى الروس أن تلك ظاهرة يجب أن تكون مفهومة إذ إن واشنطن تستخدمها أيضا عبر قوانين العقوبات وتمويل قوى المعارضة أحيانا حتى بعيدا عن حدودها ومن ثم فإن من المشروع لروسيا أن تفعل الأمر ذاته في المنطقة المتاخمة لأراضيها فإن واشنطن تعتقد أن ذلك يقع في إطار الممنوعات طبقا لصياغة العلاقات الدولية كما تفهمها. وواقع الحال أن جوهر الخلاف يكمن فيما يبدو في أن واشنطن لا ترى أن روسيا تستحق أن تنظر إلى نفسها أو أن ينظر إليها العالم كقوة عظمى وأن موسكو لم تستوعب تماما بعد أن هناك توازنات دولية جديدة قد يصعب فهما بالشرح. وفي مثل تلك الحالات لا تفيد عادة الحلول الدبلوماسية إذ إن المشكلة الحقيقية تكمن في رؤية كل طرف لوزنه على ساحة العالم. وطالما لم تتبدل تلك الرؤية فإن الشرح والمباحثات تكون في أغلب الأحوال غير مجدية. روسيا العظمى ويكمن عداء واشنطن للرئيس الروسي السابق – والمقبل – فلاديمير بوتين في أنه الأكثر تمسكا بهذا الدور الذي تعتقد واشنطن أنه أكبر من قدرات روسيا الفعلية. ومن هذه الزاوية فإن الولاياتالمتحدة ترى أن بوتين مستعد لاتخاذ خطوات أكثر عنادا وتمسكا برؤية روسيا العظمى. وليس ثمة أمل في المستقبل القريب في حل وسط لإجبار موسكو على فهم حدود دورها وضرورة تجنب مواجهة واشنطن في أمور تعتبرها الولاياتالمتحدة بالغة الحيوية كإمدادات الطاقة من آسيا الوسطى. وفي هذه القضية على وجه التحديد باركت واشنطن مشروعا عملاقا لمد أنبوب لنقل الغاز الطبيعي المستخرج من سواحل أذربيجان المطلة على بحر قزوين إلى أوروبا الوسطى عبر تركيا. وبذلت موسكو جهودا هائلة لإحباط المشروع إذ إن من الواضح أنه سيضعف الوزن النسبي للإمدادات الروسية من الغاز إلى الأوروبيين. بيد أن الروس لم يكونوا وحدهم في معارضة المشروع إذ إن الإيرانيين بذلوا جهدا كبيرا أيضا لإحباطه. وفشلت الجهود التي هدفت إلى عرقلة المشروع الذي يسمى مشروع نابيكو إلا أن المشروع لم يتقدم. فقد سارع الروس إلى إنشاء خط آخر يسمى نورث ستريم يتفرع إلى أنبوبين وعرضوا أسعارا تنافسية قد يصعب معها إقامة نابيكو إذ إنه لن يكون مجديا من الوجهة الاقتصادية. ولم يكن ذلك إلا مثالا واحدا من عشرات – بل وربما مئات – الأمثلة التي تمتد مساحتها من تركمانستان إلى إيران إلى جورجيا إلى الجمهوريات السوفيتية الأوروبية السابقة. إن كل بلد من ذلك القوس الممتد من الشرق وحتى أطراف أوروبا الوسطى يقدم عشرات من الأمثلة على السباق الدائم بين روسياوالولاياتالمتحدة في وقت تغيب فيه أي صيغة عملية لتنسيق حركة البلدين وذلك بسبب غياب أي اتفاق حول وزن كل طرف من طرفي المعادلة الشائكة في العلاقات بينهما. ويقول الأميركيون إنهم يدعمون المؤسسات الديموقراطية والنهوض الديموقراطي في آسيا الوسطى. بيد أن هذا التفسير لا يلقى اهتماما كبيرا حتى في الإقليم ذاته إذ إن واشنطن ترتبط بعلاقات بالغة القوة مع حكام عرفوا بقمعهم الدائم لشعوبهم لاسيما في بعض الجمهوريات الآسيوية التي كانت ذات يوما تابعة للاتحاد السوفيتي كما أنهم يدعمون فحسب القوى الديموقراطية التي يعتبرونها قريبة من مواقفهم أو هكذا تقول موسكو. إلا أن روسيا أيضا تشارك في دعم بعض من أكثر حكام الإقليم تعسفا وقمعا. وفي كل الأحوال فإن هذا السباق يبطل أمام من يتابعونه بحياد أي منطق يقول إن التغيرات الديموقراطية تشكل عنصرا مهما في الخلافات الروسية – الأميركية. وفي كل الأحوال فإن روسيا ترى أن واشنطن تحاول إضعاف نفوذها في المناطق المتاخمة لحدودها ومن ثم فإنها تعبث بالمصالح الروسية الاستراتيجية. وفي المقابل فإن واشنطن ترى أن موسكو تحاول فرض خيارات سياسية واقتصادية على دول أخرى عن طريق التدخل والابتزاز. ومن زاوية تضر دول الإقليم "المتنازع عليه" فإن هناك منافسة أميركية – روسية يمكن الاستفادة منها. إلا أن هذه الاستفادة ليست مفهوما قاصرا على الحكومات وإنما يمتد أيضا إلى كل اللاعبين السياسيين في أي بلد بالذات. فجماعات المعارضة تحاول الاستفادة وتكتلات رجال الأعمال تحاول الاستفادة أيضا وعادة ما ينعكس ذلك بالضرر على المصالح الوطنية. ففي قيرغيزيا تنافس البلدان على وضع قواعد عسكرية. وفي أوكرانيا لا يمكن الحديث عن انصهار وطني طالما تشجع روسيا السكان من أصول روسية فيما تشجع الولاياتالمتحدة غيرهم بل إن الأمر بلغ حد شن الحرب بعد أن أطاحت ثورة مدعومة أميركيا بالرئيس الجيورجي الأسبق شيفرنادزة وأدت المشاحنات إلى إعلان الحرب بين روسيا وجورجيا ومن ثم تقسيم البلاد. معايرة العلاقة ومع وصول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض بدا لوهلة أن تلك المعادلة يمكن أن تتغير. فقد اجتمع أوباما مع الرئيس الروسي ميدفيديف واتفقا على إعادة معايرة أسس العلاقة بين البلدين. وانعكس ذلك على الأرض إذ بعد أن كانت موسكو تعرض على الرئيس القيرغيزي كرمان بيك باكييف رشوة مقدارها 2 مليار دولار لإغلاق القاعدة الأميركية في بلاده فإن المسؤولين عن القاعدة الروسية المجاورة في قيرغيزيا أيضا قاموا بزيارة ودية هي الأولى بدعوة من قيادات القاعدة الأميركية في 2011. ولكن ما الذي تغير؟. ثمة اجتهادات كثيرة في هذا المضمار لا يصلح أي منها منفردا لتفسير التدهور الذي حدث بعد شهر العسل القصير بين واشنطنوموسكو بين 2009 و2010. فهناك من يقولون إن الأزمة الاقتصادية في الغرب جعلت من الولاياتالمتحدة أكثر ميلا إلى اتباع سياسة تتسم بقدر من البعد عن الدبلوماسية لاسيما إذا ما رأت ما تفسره بأنه محاولات روسية لاستثمار الأزمة في أوروبا على وجه الحصر. وثمة من يقولون إن عودة بوتين كانت مؤشرا إلى عودة مشروع "روسيا العظمى" إلى الكرملين. وثمة من يقولون إن الضعف المتزايد في الغرب أثمر عن وضع خطط لمنع أي بلد آخر من استثماره حتى يمر بسلام بزوال الأزمة. ثم هناك من يفسرون الأمر على إجماله في سياق الصراع على مصادر الطاقة الذي تزايد بالصعود المستمر للصين وللدول الآسيوية بصفة عامة أي مع انتقال بؤرة الثقل الاقتصادي في العالم من الغرب إلى الشرق. وهناك أخيرا من يقولون إن الولاياتالمتحدة تدرك جيدا الآثار الممكنة التي يمكن أن تنجم عن صعود آسيا، ومن ثم فإنها تود منذ لحظة مبكرة تحجيم الدور الروسي والصيني هناك والحفاظ على وجود قوى في شرق الأرض على نحو ما تبدى مؤخرا من إرسال جنود أميركيين في مبادرة رمزية للبقاء في أستراليا إلى أجل مفتوح. والأرجح أن هناك مزيجا من تلك العوامل مجتمعة بل ومن غيرها أيضا أسفر عن توفر الشروط الضرورية لمواجهة أخرى بين موسكووواشنطن. فبينما تبحث الصين عن مصادر للطاقة ولا يعرف عنها طموحات إقليمية ذات شأن فإن روسيا وهي المصدر المنتج الأول للنفط في العالم تعرف بطموحاتها الإقليمية. وفي الحالتين فإن انتقال مركز ثقل العالم إلى الشرق يعني احتمال بروز قوى عملاقة أخرى في ذلك الشرق لا بد أن يصل تأثيرها إلى ما بعد تخوم آسيا. توجه أميركي إلى آسيا ومؤخرا قال الباحث الرئيس في معهد كارنيجي الأميركي الدكتور مايكل سوين في دراسة أصدرها تحت عنوان "خطورة التوجه الأميركي إلى آسيا" إن ذلك التوجه يبدو منطقيا من الوجهة النظرية بالنظر إلى الدراسات التي أعدها استراتيجيون أميركيون أوضحوا فيها أن آسيا ستتحول إلى اللاعب الاقتصادي الأول على ساحة العالم خلال الربع الأول من هذا القرن إلا أنه – أي ذلك التوجه – يتحول إلى مخاطرة إذا ما اتخذ من الوجهة العملية موقفا يشجع على حدوث استقطابات حادة في آسيا. وقال سوين في الفقرة الأولى من دراسته "إن الولاياتالمتحدة تحول اهتمامها بقضايا الطاقة والموارد الاقتصادية الآن من الشرق الأوسط إلى آسيا في إقرار بالأهمية الحيوية المتزايدة لقدرة الولاياتالمتحدة لاحقا على توليد الثروة وعلى الحفاظ على موقعها العالمي من زاويتي الأمن والنفوذ الدوليين. ومن سوء الطالع أن ذلك يحدث على نحو يؤدي إلى استفزاز القوى الإقليمية وفي مقدمتها الصين وروسيا". وقبل أيام عرض الباحث الأميركي آندرو هولاند في "فورين بوليسي" تقريرا مهما قال فيه "إن جوهر المشكلة هو الصراع على الطاقة، فالسعي نحو النفوذ لا يأتي بسبب أي رغبة في الزهو بهذا النفوذ في نادي دول العالم، إنه استثمار من الوجهتين الاقتصادية والاستراتيجية. وعلى هذا المنوال فإن الصراع بين الولاياتالمتحدة والدول الكبرى الأخرى في العالم مثل الصين وروسيا يجب أن يفهم في هذا السياق. طعنة من الظهر وفيما يتصل بالشرق الأوسط فإن روسيا رأت أن ما حدث في ليبيا كان بداية لحقبة جديدة في العلاقات الدولية. ذلك أن موسكو وافقت بحذر وبعد تأكيدات شفوية قيل إنها تلقتها من وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بأن الأمر لن يؤدي إلى تدخل عسكري مباشر من حلف ناتو على قرار دولي صادر من مجلس الأمن بإجازة "التدخل الإنساني" هناك. بيد أن الدول الغربية تدخلت عسكريا بعد ذلك وبقدر أكبر مما هو معروف على السطح. ورأت موسكووبكين في ذلك طعنة من الظهر لاسيما أن أحدا لم يحفل بسؤالهما عن مصالحهما الكبيرة في روسيا أو يقترح أسلوبا للحفاظ على قدر منها. فحين يأتي حديث الطاقة فلا مجال للاقتسام. وبعد ذلك رأت روسيا اتجاها غربيا إلى دعم ثورة الشعب السوري. وكان ذلك أكثر مما يمكن احتماله في موسكو. ذلك أن أحدا لم يحاول التوصل إلى صيغة وسط مع الروس حول مصالحهم في سورية إذا ما سقط النظام. وهكذا فإن التوجه الغربي فُهِم في موسكو باعتباره تأكيدا لافتراضات "الهجوم الاستراتيجي الشامل" الذي يقوم به الغرب لاسيما تحت وطأة الأزمة التي يعاني منها لتحجيم دور اللاعبين الدوليين الآخرين ومن ثم الانفراد بالساحة الدولية وإلزام الآخرين كل بالبقاء في غرفته لا يخرج منها. وينطبق الأمر ذاته مع إيران. فليس صحيحا أن موسكو تريد رؤية إيران نووية وليس صحيحا أيضا أنها تعتبر النظام الإيراني نظاما حليفا حتى النهاية. ذلك أن موسكو تخشى أيضا من صعود حركات دينية متطرفة في آسيا الوسطى لاسيما في المناطق التي تؤثر فيها إيران إلى حد أو آخر من الوجهة الدينية. إلا أن الروس يرون في دعم إيران دعما لمواجهة هذا الهجوم الغربي الكاسح الذي لا يبقي ولا يذر. صياغة النظام إن المرحلة الراهنة هي باختصار مرحلة إعادة صياغة النظام الدولي بعد التبدلات العميقة التي طرأت عليه التي تمثلت قبل أي شيء آخر في الصعود الآسيوي مقابل الأزمة الغربية. وفي هذا السياق وحده يمكن فهم مواقف واشنطن – وكل من موسكووبكين – على ساحة العالم وتجاه الشرق الأوسط بصفة خاصة.