أحمد.. واحد من كثير من الطلاب الذين ذهبوا إلى المدرسة لأول مرة يحمل حقيبته الثقيلة التي ملئت بالأوراق ومستلزمات الدراسة؛ ليبدو كأحد المسافرين إلى استلام مهمة عملية جديدة في بلد ناءٍ يخطو تلك الخطوات الأولى نحو ذلك المبنى المجهول الذي لا يعرف عنه شيئاً غير أنهم أسموه مدرسة، يدلف إلى الباب ولا تزال نصائح أمه تلاحق أسماعه (كن مؤدباً، لا تبك، أنت أصبحت رجلاً لا تخف....).. ثم تتصاعد أصوات التلاميذ الأكبر منه سناً والأقدم خبرة هاهم يجرون ويلعبون فلماذا الخوف؟ يرسل بصره في كل الأنحاء، يتفحص الوجوه وجدران المدرسة، يتنقل ببصره في كل مكان على غير هدى هرباً من لا شيء، وتتزاحم الأسئلة في رأسه عن كل شيء فيعود بخياله هناك إلى المنزل أمي.. الألعاب.. الرسوم المتحركة.. يتذكر صوت والدته وهي تناديه لتناول الإفطار بشيء من دلال الأم... يقطع خياله صوت معلم ضخم يلبس ملابس رياضية ويحمل عصا غليظة مخيفة ممسكاً بميكرفون ينادي بصوت جهوري بأسماء الطلاب...فتقفز إلى رأسه عدة أسئلة.. لماذا يمسك بالعصا؟. هل سيضرب الطلاب حتى يتوقفوا عن الكلام؟. عاد ببصره يتفحص ملابسه وأظافره وشعره..كل شيء على مايرام، لقد نبهته أمه أن المعلم سوف يضربه إذا لم يكن مؤدباً ونظيفاً. من هنا تزيد حدة الخوف من الكتاب والسبورة والمعلم والجرس المرعب، فمن يمد يد الأمان ويكسر الحاجز النفسي لدى طالب الصف الأول ابتدائي في أول يوم دراسي له؟ انفصال وانضباط تحديات كثيرة يمر بها الطفل أثناء التحاقه بالمدرسة لأول مرة، تبدأ بالانفصال عن دفء المنزل وحضن الأم الحاني والرعاية الخاصة مروراً بمواجهة الانضباط المدرسي والحقيبة الثقيلة ورائحة الكتب والأصدقاء المجهولين، وكثيراً من علامات الاستفهام التي تتوارد مراراً وتكراراً لكل ما يواجهه في المبنى الجديد المحكم بأسوار وحارس عابس. قد تكون ليلة بداية العام الدراسي من الليالي الطويلة جداً على الطلاب والمعلمين والأسر على حد سواء إذ يحل الخوف ضيفاً ثقيلاً على الجميع، الخوف من البداية والانطلاقة الجديدة، هذا الخوف الذي يحمل معه المفاجآت والتوقعات والتكهنات بما عساه يحمل يوم غد. وما إن يطل الصباح حتى تبدأ أصوات الساعات بالنداء لتلقي بالأغطية الوثيرة وتطرد النعاس الذي أثقل الأجفان خلال إجازة الصيف، كأنها تنظر بشزر للطلاب والمعلمين والأسر على حد سواء وتقول كفاكم نوماً وكسلاً.. توقع الخطر يقول الأستاذ بكلية التربية بجامعة نجران الدكتور وائل العلي إن الخوف انفصال غير سار ينتج عن الإحساس بوجود خطر أو توقع حدوث الخطر، وأضاف "ونستطيع أن نتخلص من الخوف بطرق عديدة منها تهيئة الطفل للتعامل مع المدرسة مسبقاً وذلك من خلال طمأنته وتوضيح الأمور مسبقاً، وتشجيعه من قبل ذويه على تقبل البيئة الجديدة واللعب مع الأطفال الآخرين، وتهيئة المعلمين ليكونوا متعاطفين وداعمين للأطفال الجدد في البيئة الجديدة، واختيار معلمين أكثر قدرة على التعامل مع الأطفال وخاصة الأطفال الأكثر خوفاً، واستخدام الألعاب المحببة في المدرسة للأطفال في الأيام الأولى لتقليل حساسيتهم ورهبتهم من البيئة الجديدة، وتقديم محفزات تشجيعية لهم وشرح التجربة الجديدة بأسلوب مشوق وقصصي، وكسر الحاجز بإشراك أولياء الأمور في الأيام الأولى في المدرسة". الحاجات البيولوجية وأشار مشرف التوجيه والإرشاد والمشرف على برنامج الأسبوع التمهيدي بتعليم نجران محمد كزمان إلى أن الخوف لدى التلميذ المستجد في الأول ابتدائي يعد أمراً طبيعياً، ويتوقعه المربون نتيجة الانتقال من البيئة المنزلية التي تربى بها بين أفراد أسرته وأقاربه إلى بيئة مغايرة تماماً وهي البيئة المدرسية، وتابع "حيث تظهر له وجوه جديدة من المعلمين والطلاب، وهذه الوجوه تعتبر غير مألوفة، وهذا الشعور في أغلب الأحيان يختفي بعد عدة أيام أو خلال الأسبوع التمهيدي، وبعضها قد يستمر لفترة تتراوح ما بين الشهر إلى الشهرين ومع الجهود التي تقدم لهذه الفئة من التلاميذ يتم تجاوز المشكلة ويعود الطفل إلى الوضع الطبيعي، ويتم اكتشاف المشكلة من خلال ملاحظة سلوك التلميذ المستجد حيث تظهر الأعراض على شكل البكاء والتمارض والتعلق بالوالدين، وكذلك الشكوى المستمرة بأنه يعاني من المغص، ويمكن تجاوز تلك المشكلة بتطبيق بعض الأساليب الإرشادية التي يقوم المرشد الطلابي بتطبيقها داخل المدرسة". وأضاف "ونؤكد على أهمية التعامل مع تلك المخاوف بشيء من الصبر والتدرج والدعم المبني على أسس وأساليب تربوية تهدف إلى ترغيب الطالب والطالبة في البيئة الجديدة مع إتاحة الفرصة للأطفال للتعبير عن أنفسهم بحرية وعدم تقييدهم خاصة في الأسبوع الأول، خاصة الحاجات البيولوجية والميول والرغبات، ويجب عدم إغفال دور الأسرة في تمهيد الجو الجديد والتكيف معه بما يخدم اندماج الطفل في بيئته الجديدة". التفاوض والاستقلالية إلى ذلك، أكدت مديرة إدارة التوجيه والإرشاد بتعليم نجران منيرة السديس أن جميع الأطفال لديهم مخاوف في حياتهم تعتبر جزءاً طبيعياً من التنمية، وقالت "قلق الانفصال هو مشكلة شائعة جداً بالنسبة للأطفال ما قبل المدرسة وخصوصاً خلال الأسابيع القليلة الأولى من المدرسة، في هذا السن يتعلم الطفل كيفية التفاوض والاستقلالية والمشاركة". وتابعت "ومن المفيد أن يستطيع الاستمرار في نشاط معين دون إشراف أحد والجلوس من دون عمل والتحكم في التعلم، وتحمل ضجة غرفة مليئة بأناس غرباء بمعنى الاندماج في بيئة مختلفة عن بيئة المنزل، فنحن نمثل له أرض العمالقة، انتقاله إلى محيط المدرسة يتطلب تكيفاً منهجياً وكلما كان الانتقال على أسس تربوية سليمة كان التكيف بسلاسة وتفاعل، وهذه النقلة تعلق عليها أهمية كبرى إن تم إعداد برامج تمهيدية تربوية تتلاءم مع الخصائص العمرية للأطفال، كما أن المناهج المطورة لم تقتصر على أسبوع واحد فقط وإنما كان هناك تدرج في اندماج الطفل في بيئة المدرسة". طبيعة إنسانية وقال المرشد الطلابي بمجمع الملك عبدالله بنجران إبراهيم آل رشة إن أغلب الطلاب يعانون من القلق العصبي الناتج عن البعد عن الوالدين أو الخوف من شيء يتوقعه داخل المدرسة (الضرب أو الحبس داخل الأسوار) حيث يبدؤون في نوبة من البكاء ولكن بمجرد شعورهم بالأمان في مكانهم وثقتهم بمعلمهم واستشعار الراحة مع زملائهم ينجحون في التأقلم، ويمكن أن تهدئ من روع الطالب بأن تتحدث إليه بهدوء لمعرفة سبب البكاء ومساعدته في حل مشكلته أو إشغاله في أي نشاط سار له، وقال "ويجب تجنب الاندفاع بالاتصال على والده لأخذه من المدرسة فهذا من شأنه أن يزيد من صعوبة حالته في اليوم التالي، وفي النهاية فإن الخوف بدرجة بسيطة جيد وإيجابي وهو طبيعة إنسانية يساعد على البقاء متنبهاً حذراً، والخوف المستهدف هو الخوف الشديد غير الطبيعي المعيق لدور الإنسان في الحياة". وبين معلم الصفوف الدنيا بابتدائية المعتصم علي نصيب أبعاد خوف الطفل وإحجامه عن الاندماج منذ اليوم الأول، بقوله "التنشئة الأسرية لها دور كبير في ارتباط الطفل بأسرته، وفك هذا الارتباط بالأسرة يعتمد أولاً على مدى قوة هذا الارتباط و الجو المدرسي ومهارة معلمي الصف الأول"، وأضاف "وإذا كان الارتباط بالأسرة قوياً - وهو دائماً يعتبر السبب الرئيسي في إحجام الطفل عن الذهاب للمدرسة - فيجب فك هذا الارتباط أو تخفيفه أو إبداله، وهنا تأتي مهارة معلم الصف الأول في تهيئة الجو المدرسي المناسب الذي يساعد الطفل على تكوين ارتباط جديد"، مشيراً إلى دور المحفزات في تهيئة الجو المدرسي المناسب ومنح هذا الطفل المحبة، قائلاً "إذا اكتسب المعلم محبة تلاميذه الصغار تذللت أمامه كل الصعوبات بما فيها كسر ارتباط الطالب بأسرته، وكذلك إيصال المعلومة وتلقي الأمر والنهي من المعلم ليصبح لدى الطالب القدرة والرغبة في التعلم". وعن حالات الخوف بين الطلاب، قال "حالات الخوف موجودة في كل عام بل إن بعضها يتطور إلى بكاء وادعاء مرضي، ومع تراكم الخبرات لدى معلم الصف الأول أصبحنا نجيد التعامل مع هذه الحالات التي عادة ما تستمر لأكثر من أسبوع حسب شخصية الطفل وطريقة تنشئته الاجتماعية".