في استوديو صغير خلف سجن العاصمة المالية باماكو وعلى الطريق المؤدية إلى محطة القطار عمل المصور المالي سيدو كيتا (سعيد ولكن النطق غير العربي يجعله سيدو) بإمكانات متواضعة لما يقارب الخمسين عاما، صور خلالها عدة أجيال من الماليين ليحظى بشهرة محلية جيدة، انتهت حين سرقت معدات تصويره في نهاية السبعينات ليتحول إلى عامل تصليح دراجات وينتقل كنز فني من سلبيات الصور إلى صناديق في غرفة الجلوس في منزله. في منتصف التسعينات من القرن الماضي بعد أن تقاعد عن التصوير ب25 سنة، لعب الحظ دورا جوهريا في نقله من المحلية إلى العالمية بعد أن عرضت له ثلاث صور فوتوجرافية في أحد متاحف نيويورك، تحت اسم "مصور غير معروف". أدهشت تلك الصور الكثيرين بجودتها مما حدا بأحد الفرنسيين المهتمين بسوق الصورة للسفر إلى مالي للبحث عن الفنان المجهول. وبعد الاتفاق على عرض وتسويق صوره في أوروبا أصبح كيتا في مصاف مشاهير فناني البورتريه في العالم، وأصبحت صوره تعرض في المتاحف في أوروبا وأميركا وتباع النسخة الواحدة بعشرات الآلاف من الدولارات. كيتا علم نفسه التصوير، بدأ التقاط الصور لزبائنه في الشارع بخلفيات متواضعة وأدوات زينة بسيطة، وفي أحيان كان يشتري دراجات وسيارات مستعملة ليتصور معها زبائنه، وبالإضافة إلى ذلك استعمل جدران الشوارع كخلفيات، وفي أحيان كان يستعمل قماشا كخلفية وفي صور أخرى يستعمل ذات القماش كغطاء لطاولة أو مقعد. والأكثر طرافة أنه استعمل في بداياته "ملاءة" سرير نومه كخلفية في بعض صوره، ومع ذلك، كان مطلوبا ليصور طبقات المجتمع المالي من عمال وحرفيين وبرجوازيين ومسؤولين، كوّن من خلالها أرشيفا بصريا لا يقدر بثمن للآلاف من الماليين الذين يعيشون في تلك الفترة تحت الاحتلال الفرنسي وكانوا يطمحون لشكل من الحياة المدنية الحديثة عبر تجسيد كيتا لهم، متأنقين ومرتدين ثيابا وإكسسوارات حديثة. أرشيف كيتا أضاف لفن البورتريه فنانا فريدا في أسلوبه، وصورا ذات قيم جمالية وثقافية عالية. ولعل أبرز ما يميز صوره هو أسلوبه في توجيه زبائنه ليقفوا أمام الكاميرا، فقد كان يردد عليهم حين يطلب منهم الوقوف بطريقة معينة، "إنك تبدو جميلا بهذا الشكل". ولم يكن أمامهم إلا الموافقة على قراراته كمصور إذ لم يكن يلتقط في أغلب الأحيان إلا صورة واحدة لكل زبون نظرا لقلة إمكاناته وإمكانات زبائنه. وكما صرح لاحقا عن سر جماليات صوره "من السهل التقاط صورة ولكن ما يصنع الفرق أنني كنت أعرف دائما كيف أجد الوضعية المناسبة للشخص الذي أصوره ولم أكن أبدا مخطئا، يتم توجيه رؤوس من أصورهم بحركة بسيطة، وأياديهم توضع بطريقة معينة، كنت قادرا على أن أجعل أي شخص يبدو رائعا، صوري كانت دائما جيدة، لذلك أقول: هكذا هو الفن الحقيقي". ليس سر جمال صور كيتا في كيفية تصوير زبائنه فقط، بل في أصالة الصور التي وثقت الماليين بشكل مختلف عن النظرة النمطية التي يصورها أو يرسمها المستعمر الأجنبي ل"الإنسان الأفريقي"، فالماليون في صور كيتا "مليئون بالحياة، يعيشون حياة مدنية وواثقون بأنفسهم". وفي أغلب صوره، يبدو كما لو أن الناس مروا بالصدفة من أمام كاميرته غير متكلفين وكأن الوقوف أمام كاميرا كيتا لم يكن إلا أمرا عابرا ضمن برامج حياتهم اليومية التي قد تكون زيارة لحبيبة أو ذهابا إلى العمل أو حتى انتظارا على كرسي في شارع ما. ونرى في صورة الشاب الذي يحمل الوردة، والفتاة الجالسة على الكرسي أكثر الأمثلة على فن كيتا في تكييف زبائنه أمام الكاميرا، فيد الشاب اليسرى تأخذنا باتجاه الوردة المنتصبة بأناقة باتجاه السماء، بينما الفتاة الجالسة تجبرنا حركة يديها أن نظل معها في حالة انتظار في دوامة بصرية من الذراع إلى الكف إلى اليد الأخرى ثم الرأس والعودة في ذات المسار. أثبتت أغلب صور كيتا حسه العالي تجاه التكوين والتباين والتأطير ممثلة في استعماله لخلفيات بسيطة ولكنه يخترع في كل مرة صورة جديدة وفريدة. لقد استطاع أن ينتج صورا في غاية الجمال والحميمية، وأن يوثق حياة سكان مدينة باماكو بطريقة لم يحظ بها أي من المجتمعات الأفريقية المماثلة. * كاتب ومصور سعودي