منذ صعوده إلى السلطة عام 1981، لم ينعم الرئيس حسني مبارك يوماً بصلاحياته المطلقة على رأس الدولة المصرية دون الكثير من الانتقاد، وربما التجريح. وفي المقابل فقد أوعز نظامه للكثيرين، وتبرع آخرون أكثر، بكيل المديح والثناء على شخصه، لكن أحداً لم يشر، على الأرجح، إلى أهم مناقبه "الصلابة والجلد"، كما أن كثيرين لم يرصدوا أخطر عيوبه "العشق العميق للهيمنة والتعلق المطلق بكرسيه". على مدى عقدين من حكمه، لم يكن مبارك أفضل حاكم حصلت عليه مصر على مر تاريخها المفعم بالقهر والتسلط والفقر والأمجاد، لكنه أيضاً ليس أسوأ من حظوا بتلك المكانة ولا أقلهم بلاء، وقد اختار لها، بوسطيته التي لا يختلف عليها اثنان، موضعاً وسطاً وإنجازاً محدوداً وقواماً متوسط التماسك والمرونة؛ فلم يسمح لها بالانهيار والهزيمة الكاملة، كما لم يحرر طاقاتها ويضعها على طريق الانطلاق المفترضة. لكن العقد الأخير في ولاية مبارك عرف تغولا للفساد وانفلاتا في منظومة الحكم، بعدما بدأ الرئيس ينسحب إلى الإقامة في منتجع شرم الشيخ المحبب إليه، وبعدما ترك الكثير من أمور السلطة موزعا بين رغبة نجله الأصغر جمال في وراثة الرئاسة، ونخبة ضيقة من مجمع الفساد والمصالح الذي التف حول الوريث المزعوم، ساعيا إلى التمهيد لنقل الحكم إليه، وإلى تعظيم منافعه على حساب المصلحة الوطنية ومقدرات البلد. كان مبارك يوشك على بلوغ تمام عقده الثالث في السلطة، والبلد يعاني أخطر الأزمات، وينهكه الفساد، وتوجعه الفرص الضائعة، وينهشه الفقر، ويغرقه الانفلات، ويتراجع دوره على الصعيدين الإقليمي والدولي، ويتحول من دولة قاعدة ومحورية في الإقليم إلى "رجل مريض" يشغل المسرح ويسحب من رصيد آخذ في النفاد. من أهم فضائل مبارك، التي عرفت عنه، صلابته، التي اكتسبها من ميادين الرياضة والعسكرية، والتي تجلت في رباطة جأشه في الملمات؛ سواء خلال عمله كطيار مقاتل، أو حينما أطلقت النيران عليه نائباً للرئيس في حادث المنصة ورئيساً في أديس أبابا، وعندما تكشفت وقائع عن محاولات جادة لاغتياله، وأخيراً حين فقد حفيده الأكبر محمد. ولذلك، فقد صمد مبارك 18 يوما أمام طوفان جارف قوامه أكثر من 20 مليون مصري نزلوا إلى الشوارع، وقلوب أكثر من ضعفهم ناشدته وطالبته وأمرته بالرحيل. تحول صمود الرجل وما عرف عنه من صلابة إلى عناد وتحجر، وبدا مستعدا للتضحية بأي شيء وبكل شيء ليحافظ على موقعه وكرسيه. قبل عامين رأى محللون وسياسيون مصريون الأزمة تحكم خناقها حول الرئيس، المتماهي في سلطته والمستمتع بمكانته والغافل عن موجات الرفض والمواجهة والثورة المتصاعدة ضده، فتحدثوا عن "خروج مشرف وآمن" لبطل حرب أكتوبر، لكنه استهان واستكبر. وقبل عام تحدث هيكل عن ضرورة "نقل آمن للسلطة عبر مجلس أمناء الدولة والدستور"، لكنه لم يعر الكلام انتباها. وحينما زورت الانتخابات التشريعية الأخيرة، وشكل الخاسرون "برلمانا موازيا"، سخر منهم قائلا: "اتركوهم يتسلوا"، وحين خرج الملايين يهتفون "الشعب يريد إسقاط الرئيس"، أقال الحكومة، وأعلن عزمه البقاء ليخرج في الوقت الذي يقرره. تنحى مبارك أمس، وانكسر عناده أمام ثورة نبيلة وعارمة؛ فهتف ملايين "الثوار" في ساحات البلاد فرحا، وزغردت النسوة في الشرفات انتشاء، وهيمن على البلاد شعور جارف ب "العزة والفخر والأمل"، رغم تعاظم الهواجس وطوفان الأسئلة. دخل مبارك إلى مسرح الحياة السياسية في بلاده من باب الكرامة والصلابة والدأب، وسجل في تاريخها سطرا من أنصع السطور وأشدها بهاء، لكن تعلقه بالسلطة، ورعايته للفساد، ورغبته في توريث نجله، وعناده واستعلاءه، وافتقاده الخيال والطموح والرؤية وبطانة الخير، أخرجته من أضيق الأبواب وأدناها، وأنزلته منزلة الهوان. كان بمقدور مبارك، كأي حاكم رشيد، أن يستمع لنبض شعبه ويسعى إلى إدراك غاياته، لكنه لم يحسن قيادة التحول الحتمي والمطلوب. وها هو يندم في وقت لا ينفع فيه الندم.