أعترف بأنني كنت في قمة أنانيتي حينما لم أمعن النظر في وضع فئة معينة من فئات المجتمع. وازداد عتبي على نفسي عندما كانت المصادفة هي بداية علاقتي بهذه الفئة. الموضوع -يقينا- كان للمصادفة فيه عامل أساسي، ولكن بعد ذلك ربطتني علاقة نفسية قوية بفئة من الناس، لهم ما للمجتمع من حقوق، وعليهم ما على سائر الناس من الواجبات. عندما بدأت أبحث وأدقق في البحث، كانت الرؤية غير واضحة لي، بسبب الحاجز الكبير الذي لا أعلم يقينا لماذا بُنيَ بين هذه الفئة وبين الآخرين، وعندما حاولت تجاوز هذا الحاجز، وجدت أن الصورة مختلفة تماما عما كنت أراه وأعتقده. نبدأ من أول الطريق، ومن تلك المصادفة، لقد اعتدت في متابعتي عملا دراميا أن أرتبط نفسيا بأبطال العمل، وأشعر أنني جُبلت على ذلك ولم أختر ذلك، وفي مرة من المرات شعرت بأنني قد أتممت متابعة جميع الأعمال لبطل معين -رحمه الله- فذهبت إلى الموسوعة الحرة «ويكبيديا» كي أبحث باسمه، علّي أجد مسلسلا أو فيلما من أعماله، لم أشاهده له من قبل. وبالفعل، وجدتُ مسلسلا وبدأت في متابعته، لأكتشف أن «المرحوم» كان يقوم بدور مساعد لأحد الأدوار الرئيسية في المسلسل، قررت الاستمرار في المشاهدة، فأنا أقدر الأعمال التي يظهر فيها هذا الممثل، حتى وإن لم يكن دوره رئيسيا. لا أنكر أن البداية المثيرة لأحداث العمل جذبتني جدا، وظننت وقتها أن العمل يصور قصة «أكشن» ذات طابع مثير، واندمجت فيها سريعا، ويقينا لم يخطر ببالي -ولو لوهلة- أن المسلسل يتحدث عن شيء آخر أبعد ما يكون عما ظننته. في نهاية الحلقة الثانية على ما أذكر، علم أحد أبطال المسلسل أنه مصاب بفيروس نقص المناعة المكتسبة «الإيدز» HIV، ذهلت حينها وبدأت أدرك أن القصة ستأخذ منحنىً آخر مخالفا لما ظننت. بدأ الرجل في الانهيار والبكاء عند تلقيه الخبر، وبعد مدة نصحته طبيبته بزيارة أحد المراكز المختصة بمتعايشي فيروس نقص المناعة المكتسبة «الإيدز»، وهناك سيتلقى علاجه وسيكون في بيئة نفسية أفضل. لقد اندهشت آنذاك عندما سمعت وجود علاج لمثل هذه الأمراض، فما أعرفه أن هذا المرض لا شفاء منه! وقد ظننت أن هناك ثغرة درامية في العمل، أو أن هناك خطأ في تركيب القصة. وفي حقيقة الأمر أن عدم درايتي الكافية بهذا الموضوع هو السبب في ذلك، قلت لنفسي: لا تستبق الأحداث و«خليك معاهم للآخر»! في الواقع، إن أكبر غلط نقع فيه ألا نقوم بتثقيف أنفسنا، لمجرد أن الأمر لا يعنينا، والحقيقة أن ذلك يدعونا إلى الابتعاد وعدم البحث والاطلاع، واكتشفت أن البعض يتقوقع على نمط معين في المعرفة لا يحيد عنه، وقد كنت كذلك. كي لا أطيل عليكم، أكملت المتابعة وبدأت في اكتشاف أمور لم أعرفها من قبل، ما هذا؟! ألهذه الدرجة كنت لا أكترث لفئة من فئات المجتمع، وهي فئة متعايشي هذا الفيروس؟ يا إلهي! تعلمت أمورا كثيرة، منها أنه ليس من الضروري أن يكون متعايش هذا المرض قد فعل فعلا مُخِلا بالأخلاق كي يصاب به، أو أن عقاب الرب قد حل به! ألا يوجد هناك ممن يتمتعون بالصحة الكاملة أشخاص مجرمون؟! تعرفت على طرق انتقال المرض غير السهلة، إن جاز التعبير، وهي نقل الدم الملوث أو الانتقال من أم مصابة إلى وليدها خلال الولادة، أو عن طريق الرضاعة الطبيعية، إضافة إلى ما هو معروف من انتقال المرض عن طريق العلاقات الجنسية. كما علمت أيضا أن هذا الفيروس لا ينتقل في حالة مخالطة المتعايش والتعامل معه، ولو استعملتما «المنشفة» نفسها، أو أكلتما سويّا! أيقنت وقتها أن عدم درايتنا الكافية قد يتسبب في ظلم أشخاص عن طريق المعاملة الخاطئة. بعدها، سألت صديقي الدكتور عن هذا الفيروس، وبدأت البحث لأجمع المعلومات الكافية عنه وأكتشفه أكثر، وقمت بمراسلة بعض المتعايشين في وسائل التواصل ومتابعة حالاتهم عن كثب، ولكن ذُهلت أكثر عندما اكتشفت أنه لا توجد توعية حقيقية بحق المتعايش، وأن التوعية فقط مقتصرة على الوقاية من المرض فقط! وهذا الشيء يقينا تسبب لي في إزعاج كبير، فعندما أرى حالة المتعايش وفي المقابل لا أرى ولو عملا واحدا يقوم بتوضيح الأمور، وأن هذا المتعايش شخص طبيعي لا يخيف، وأنه يتلقى علاجه كما يتلقى مريض السكري أو الضغط علاجه المستمر، وأنه يمكن لك التعامل معه وعدم نبذه، وألا تلقي بالتهم جزافا، وتعتقد أنه معاقب، فقد تكون أكثر ذنوبا منه وأنت سليم. وأكثر من ذلك، ساءني ذلك الحاجز الوهمي الناتج عن عدم الدراية الكافية لدى الشخص السليم عن هذا الفيروس ومتعايشيه. وأقولها -وبكل صدق- لكل من لا يريد تجاوز هذا الحاجز: ربما يكون هذا المتعايش أخاك أو ابنك أو صديقك، وربما يصيبك هذا الفيروس أنت فعلا، لتجد تعامل الناس بما لم تنتظر منهم أن يعاملوك به. بعد البحث في هذا الموضوع ودراسته من كل النواحي، وجدت أن هناك أمرا لا يكتمل بمجرد طرح الموضوع، وأن العمل الفعلي هو أول خطوة في هدم ذلك الحاجز، الشيء الذي دعاني إلى أن أبدأ بكتابة عمل يصور حياة المتعايش بالشكل الواقعي، لا بالمبالغة التي تصوره شخصا منتهيا، وهذا ليس حقيقيا، ولا بالإهمال الذي يطرح القضية على أنها شيء لا قيمة له ومجرد «احذر تسلم». أسأل الله الشفاء لكل متعايش، وأقدم لهم اعتذاري الشخصي لما سبق من عدم اكتراث مني بهذه القضية، وأشكر تلك الصدفة التي ربما تساعد في خدمة فئة طبيعية من فئات المجتمع.