يعتقد المراقبون أن الورقة السياسية الأكثر أهمية في الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة، التي قد تؤدي إلى حروب مدمِّرة، ما لم تتعامل معها حكومات المنطقة بجدية كاملة، لن تكون ورقة الإرهاب أو الثورات أو أشياء مشابهة، بل ستلعب المياه الدور الأبرز في تشكيل أطر السياسة الوطنية والإقليمية في دول الشرق الأوسط لما لها من أهمية كبيرة بسبب تزايد عدد السكان وتناقص الموارد المائية بشكل مقلق. وقد نشر "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي" في ديسمبر المنصرم تقريراً حول وضع وأهمية المياه في منطقة الشرق الأوسط أكد فيه الباحثان جون ألترمان ومايكل دزيوبان، اللذان أعدا التقرير، أن الأبحاث المتعلقة بالمياه ركزت حتى الآن على الأنهار المشتركة كسبب محتمل للحرب بين الدول بسبب الخلافات التي قد تنشأ عن قضية تقاسم مياه هذه الأنهار. لكن دول الشرق الأوسط تمكنت حتى الآن من تجنب الدخول في حروب بسبب أنهارها، ونجح الدبلوماسيون في تخفيف حدة التوتر والحفاظ عليها ضمن حدودها الدنيا. لكن الموارد المائية الباطنية المحدودة داخل الحدود الوطنية تشكل تحدياً خطيراً ذا نتائج استراتيجية هامة. فالمياه الباطنية هي التي تستخدم في الغالب لري الزراعات الوطنية، وهذه الزراعات هي مصدر اقتصادي أساسي لكثير من دول المنطقة قد يؤدي تدهورها إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية كبيرة، بل إن تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية يقول إن استهلاك ونفاد المياه الباطنية قد يؤدي إلى تصدع وخلل كثير من التوازنات السياسية الموجودة حالياً في دول المنطقة. ويضيف التقرير أن المياه هي مكِّون رئيسي للاستقرار الاجتماعي في الشرق الأوسط لأن الحكومات في هذه المنطقة لا تدعم فقط أسعار الوقود والمواد الغذائية الرئيسية، بل توفر المياه بأسعار مخفضة جداً، ومجاناً في بعض الأحيان، لضمان رضا شعوبها. ولكن عندما تقوم الحكومات برفع الدعم عن بعض المواد الغذائية، كما حدث في بعض الدول، فإن ذلك كثيراً ما يؤدي إلى اضطرابات وقلاقل لا يحمد عقباها. إن الدور الذي تلعبه المياه في التسبب في وقوع اضطرابات سياسية أو اجتماعية كان محدوداً حتى الآن، لكن هذا الوضع قد لا يطول كثيراً. فالمياه ليس لها بديل يمكن الاستفادة منه، ومع أنها رخيصة عندما توجد في مكانها وشكلها الطبيعي، إلا أن تنقيتها ونقلها قد يكون مكلفاً إلى حد كبير أحياناً. ويشير التقرير إلى أن قلة وندرة المياه ستكون أكثر دواماً في المستقبل مما كانت عليه حتى الآن، وقد لا تتمكن الحكومات من التعامل مع الأوضاع القادمة بنفس الفعالية لمنع الاضطرابات. لقد نجحت دول الشرق الأوسط في الحفاظ على الزراعة وتوفير الغذاء للسكان بمساعدة ما يسمى ب"الثورة الخضراء" التي اجتاحت المنطقة في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، ولا تزال كثير من هذه الدول تستثمر بشكل كبير في المجال الزراعي. لكن شح ونضوب المياه الجوفية ستكون له نتائج متعددة على طريقة تعامل الحكومات في الشرق الأوسط مع شعوبها. ستكون الهجرة بشكليها الداخلي (من الريف إلى المدنية) والخارجي واحدة من المشاكل الرئيسة لأن السكان الذين يعتمدون على الزراعة سيكتشفون أنه لم يعُد بإمكانهم كسب عيشهم في المناطق الريفية. العزلة السياسية قد تكون مشكلة أخرى لأن بعض الأنظمة في الشرق الأوسط تتبع سياسة الرعاية الزراعية حيث يتم تصوير المياه وكأنها جزء من الخدمات التي تمن الحكومات على شعوبها بها، وفي حال نفاد المياه الجوفية فإن هذه المفاهيم سوف تفقد قيمتها بالتأكيد، وهذا بدوره قد يؤثر على الاستقرار السياسي في المنطقة. توصيات وحلول ممكنة إن منع حدوث الأزمات يستوجب القدرة على الاستمرار في توفير كميات المياه اللازمة. وفيما يلي بعض التوصيات التي قد تساعد في تحقيق ذلك: - الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة لإنتاج ومعالجة وإعادة تكرير المياه يشكل طريقاً ممكنا لبعض الدول، خاصة الدول الغنية. - من أجل السيطرة على كمية المياه المطلوبة، على دول المنطقة أن تفرض رسوماً وأسعاراً شاملة على أنظمة المياه وأن تقدم حوافز تحث المواطنين وتشجعهم على استخدام المياه بشكل مسؤول. - من الضروري تغيير مفاهيم الناس العاديين في جميع الدول حول المياه والطرق المثلى لاستخدامها. إذا استمر الناس في النظر إلى المياه على أنها مورد مجاني فإنهم سيستمرون في الإسراف في استخدامها وكأنها لن تنفد أبداً. - إن الإصلاحات الفعالة ممكنة إذا بذلت الحكومات جهودا كافية ضمن الهياكل السياسية والاقتصادية الموجودة حالياً، وهذا يتطلب بالدرجة الأولى صياغة مفهوم المحافظة على المياه بشكل يفهمه المواطنون ويقبلونه، وكذلك يجب تقديم الحوافز اللازمة التي تتناسب مع آمال وطموحات هؤلاء المواطنين. - لكن الأهم هو أن تتم الإصلاحات بسرعة، لأن تأخر الحكومات في التعامل مع هذه القضية سيسبب مشاكل كثيرة واضطرابات قد تفاجئ حدتها الجميع.