بقدر ما يجبرك مقطع يتم تداوله بشكل كبير، يجيب فيه شاب سعودي على سؤال زميله حول اتجاهه الفكري بالقول "ربراري" قاصدا ليبرالي، على الضحك من القلب، يثير هذا الجواب التساؤل عن المدى الذي وصل إليه مجتمعنا في تشويه المفاهيم الفكرية من خلال تحويلها إلى تهم وتصنيفات اجتماعية، يقصد بها الانتقاص من الآخر المختلف معك. فهذا الشاب الذي لم يستطع نطق كلمة ليبرالي بشكل سليم، فما بالك بفهم معناها، نموذج لما يحدث في نقاشات اجتماعية عديدة، تحتضنها الكثير من المجالس والديوانيات الخاصة والعامة، التي عادة ما تتناول قضايا تطرحها وسائل الإعلام، وخصوصا ما يعرف بالإعلام الجديد وفي مقدمتها الصحف والمنتديات الإلكترونية. ولكن الملفت أن هذه النقاشات تتحول إلى مناصرة لهذا الرأي أو ذاك أو تبن لموقف أو تصنيف يطلقهم أحدهم دون وعي بحقيقة هذا المصطلح أو المفهوم. ولعل تبني مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني للقاء حواري ينطلق اليوم في جدة لمناقشة عدة محاور حول "القبلية والمناطقية، والتصنيفات الفكرية، وتأثير تلك التصنيفات على الوحدة الوطنية" جاء في وقته للوصول إلى رؤية شاملة حول تلك القضايا التي يمكن تصنيفها في خانة الهوية الوطنية وتأثير العلاقات الاجتماعية والأبعاد السياسية والاقتصادية عليها. وبدأ موظفو المركز منذ أكثر من شهرين في دعوة عدد من الكتاب والمثقفين من الجنسين الذين لهم اهتمام واضح بهذه القضايا، حيث يسعى المركز إلى جمع حوالي 70 متحدثا في هذا اللقاء الذي يعتبر الثالث المخصص لنقاش "قضايا الخطاب الثقافي السعودي" بعد لقاء الأحساء ثم لقاء الرياض. ويشير عدد من الدراسات والطروحات الثقافية إلى أن الانفتاح الحضاري وتأثيرات العولمة لم يحدا من التعصب القبلي في المجتمع العربي بشكل عام والسعودي بشكل خاص بل يرى بعض الباحثين أن ما حدث هو العكس حيث زادت نبرة القبلية والعنصرية بفعل استغلال ثورة المعلومات واستخدام معطيات العصر في نشرها وترسيخها كقيم اجتماعية كالقنوات الفضائية الشعبية والإنترنت، فالفضائيات أصبحت مرتعا خصبا لرفع راية القبيلة والتفاخر بالأنساب والأحساب متوجة الأمر بمزايين الإبل، التي تحولت من فعل ثقافي شعبي أقرب إلى الهواية، إلى مناسبة مهمة لتذكر "أمجاد القبيلة". أما الإنترنت فهو المكان المفضل لتوثيق هذه "الأمجاد" فلم تعد أي قبيلة بدون موقع على الإنترنت بل وتطور الأمر إلى "الفيسبوك". ويبرر الناقد الدكتور عبدالله الغذامي هذه العودة إلى حضن القبيلة في كتابه" القبيلة والقبائلية" بأن أحد أسباب ذلك هو "تراجع المثاليات القومية والحداثية وبداية تقهقر الطبقة الوسطى، منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو ما صاحبه عودة الأصوليات الكونية بعامة، وهو جو ثقافي عالمي ظهرت معه كل أنواع الهويات الذاتية كبديل للهويات الكبرى". لكن هناك من يرى أن طرح الغذامي هذا طرح عام قد لا يكون السبب الأول في مجتمعنا السعودي، حيث يرى هؤلاء أن من أهم أسباب ذلك "النزعة الأممية كبديل للوطنية (المحلية) التي رسختها عدة قوى وتيارات ثقافية محلية في فترة صراع الحداثة والأصالة، وبالتالي أصبح مفهوم الانتماء الوطني ضائعا وضعيفا وسط هذا الشد والجذب، فكانت النتيجة النهائية العودة لأحضان القبيلة والعشيرة". كذلك يمكن ملاحظة تسلسل هذه النزعة إلى الإدارات الحكومية والمصالح العامة، بفعل التغاضي عن بعض ممارسي فعل القبلية والطائفية، وهما أس الواسطة والمحسوبيات التي تعتبر من أهم المشكلات الإدارية في المملكة. وينتظر المراقبون أن يكون النقاش شفافا وملامسا لأصل المشكلة، ويمكن هنا أن نتمنى على المشاركين الإجابة على عدة أسئلة منها: كيف يمكن أن نوفق بين "مؤسسة" القبيلة ومؤسسات المجتمع المدني في ظل محدودية وضعف هذه المؤسسات الوطنية وتنامي دور القبيلة والعشائرية بمستوى أعلى من مستوى بداية تأسيس هذا الكيان الوطني؟ وما علاقة تزايد الفساد الإداري والمالي بظاهرة القبيلة والمناطقية؟. فقد تحقق الإجابات على تلك الأسئلة وغيرها الهدف الذي يقام من أجله هذا اللقاء وهو "الوصول لخطاب وطني معتدل يعبّر عن طبيعة المجتمع السعودي، وعن معطياته الفكرية المتجددة وفق قيم الإسلام المبنية على الوسطية والاعتدال والتسامح".