كان طقساً بارداً، تجمدت أطرافها، وأخذ فكاها يرتجفان، جلست على الأريكة وتنهدت.. شعرت والدتها بحركة، فنادت: - جُمان، هل عدت؟ -نعم، عدتُ تواً من العمل، لكنّ البرد نخر جسدي، فجلست قرب المدفأة، قبل أن أتفقدكِ. خرجت والدتها، وقدمت لها كوباً من الشاي الساخن، قائلة: -أدفئي جوفكِ. تمتمت شاكرة، ورشفت قليلاً منه، ثمّ سرحت بأفكارها، ودمعةٌ يتيمة فضحتها أمام والدتها. -جُمان، تبدين متعبة وشاردة الذهن، أخبريني ما بكِ؟ -لاشيء أمي، لا عليكِ، إرهاقٌ لا أكثر. تعرف الأم أن الدمعة لا تسقط سهواً، فعادت: -هل ضايقك أحد في العمل؟ كل الأشياء تداعت لتُبكيها اليوم، حتى البرد القارس لامس ذكرى الماضي، جاهدت كثيراً لإخفاء ما يعتمل في مآقيها، لكنّها ارتمت على صدر والدتها، وغرقت في نحيبٍ مر. ناقمةٌ هي على الجهل، على المجتمع المتخلف، على الوجوه والابتسامات المنافقة، على أربعة حروفٍ تشكل «عانس»، الكلمة الموجعة، التي أفقدتها توازنها. -أمي تأمليني جيّداً، أينقصني شيء؟ أكملت دراستي، وحققتُ حلمي، وعملت بأحسن المدارس مرشدة نفسية، تحملتُ كثيراً، وحين اصطدم قلبي بأحدهم خطفه الموت قبل الزواج.. الجميع يا أمي قبيحو النظرات، يتملقونني، يتحفصونني، يطرحون علي دون أن ينطقوا بسؤالهم المقيت: لمَ لم تتزوجي بعد؟ تجفف دمعها، وتكمل «صاحب البقالة يلقي تحية الصباح عليّ، ويتبعها بدعوة للزواج به، وجارنا الضخم يكاد يأكلني بعينين شرهتين، وأخي يزجرني حين أعود للمنزل: -ألا تفهمين، قلت لا تخرجي إلا بإذني، لمَ تأخرت، وما هذا الذي ترتدينه، ويتبعها ب«هَمّ البنات للممات». تكمل «بتُّ عالة على كل شيء يا أمي، تعبت، ليتهم يفهمون كم أنا سعيدة بوحدتي، وأنّني كلما نضجت أصبحت أريد شريكاً يعشقني بالعقل لا بالقلب، يقدس نضجي وموسيقاي الهادئة وكلّ أشيائي، ليتهم يستوعبون أنّني أردت رجلاً لا ذكراً، وأنّني مقتنعة باختياري.. أتعلمين، اليوم دخلت غرفة الاستراحة، وإذا بالمعلمة أمل توجه الكلام لمعلمةٍ ساذجة مثلها: -تلك العانس جُمان من الذي سيغرم بها بعد الآن، سيفوتها القطار قريباً، لذا ستوافق على ابن عمكِ الأربعينيّ، أخبريه عنها. تجمد الدم بعروقي، اتسعت عيناي بحرقة، صرخت بوجهيهما: -كفى جهلاً، كفى استغابة وحماقة، من أخبركما أنني أبحث عن عريس؟، أو أنّ مبلغ حلمي ألا يفوتني قطارٌ كهذا؟ خرجت راكضة في الأزقةِ الضيقة، والمطر يغسلني كما دموعي. ضمتها الأم لصدرها وبكت، ربتت على ظهرها مواسية. نهضت جُمان، مسحت دموعها بظاهر كفيّها: -لا عليكِ أُماه، تعوّدت، لكن اليوم ذكرى وفاة أحمد رحمه الله لذا زادت كآبتي. -تُصبحين على خير، قالتها ثمّ ولجت إلى عالمها الصغير مبتسمة، هُنا تجد حريتها، هُنا سرُّ اكتفائها بذاتها، كتبها وأقلامها ورسوماتها، ونافذة تطل منها للسماء كلّ يوم، حامدةً إلهاً لم يخلقها عبثاً ولن ينساها.