يُعتبر فريدريك نيتشه هو أحد أهم وأشهر الفلاسفة الألمان، نظرا لما تتميز به أعماله من جرأة لا تعرف حدا للنقد، كل شيء قابل للنقد عنده، وقد كان يهدف من فلسفته إلى صناعة ما أسماه بالإنسان الأعلى. ونلاحظ أن نيتشه يتفق مع الفيلسوف اليوناني سقراط في مسألة الاهتمام بالإنسان وجعله هو المحور في التفكير الفلسفي، إلا أن سقراط لا يلغي أو ينكر المسائل الميتافيزيقية، بالإضافة إلى أن سقراط كان يؤمن بإله واحد فقط وينهى عن عبادة الأوثان التي كانت شائعة في العصر اليوناني، أما نيتشه فإنه قد غالى في الإنسان، وجعله هو كل شيء ولا شيء سواه، حيث يقول: «إن ما أريده هو أن أعيش كما أشتهي، وإلا فخير لي ألاَّ أعيش». حيث قد جعل الإنسان هو المعنى بذاته، وقد شاهدنا نتائج هذا الفكر الذي أودى بحياة صاحبه إلى العذاب الذي لا يُطاق والألم النفسي الحاد ثم الجنون في آخر حياته! إن الخطأ الفادح الذي وقع فيه نيتشه هو استناده وانطلاقه من فكرة العدمية التي بنى عليها فلسفته. أتى بعد ذلك من قام بتوضيح العلاقة الصحيحة بين الإنسان والمعنى والوجود، وهو طبيب الأعصاب النمساوي فيكتور فرانكل الذي توصل إلى حقيقة أن الإنسان يبحث عن المعنى وليس هو المعنى، فأصدر كتابه بعنوان (الإنسان يبحث عن المعنى)، والذي قد أكد فيه على أهمية المعنى للإنسان، حيث يقول فرانكل: «إن اهتمام الإنسان بالحياة وقلقه بشأن جدارتها وحتى يأسه منها، لا يخرج أحيانا عن كونه ضيقا معنويا روحيا، وليس بالضرورة أن يكون مرضا نفسيا بأي حال من الأحوال، وهنا يكون تفسير هذا الضيق المعنوي أو الروحي على أنه مرض نفسي هو ما يدفع الطبيب إلى أن يدفن اليأس الوجودي عند مريضه تحت كومة من العقاقير المهدئة، ولكن مهمته بالأحرى أن يقود المريض من خلال أزماته الوجودية إلى النمو والارتقاء». على الرغم من أن الإسلام قد سبق فرانكل في التأكيد على أهمية المعنى للإنسان، من ذلك قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، فيها إشارة واضحة وتذكير للإنسان المسلم بألَّا يغفل عن المعنى الأساسي من وجوده في هذه الحياة. وكان فرانكل يرى بأن المعنى يمكن أن يوجد حتى في أقسى لحظات المعاناة والألم، ويؤكد على أن كل إنسان مسؤول عن إيجاد معنى لحياته. وهذا ما أخبرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما قال: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيرا له». وقد عارض فرانكل النظريات النفسية الإنسانية التي ترى أن الهدف الرئيسي لحياة الإنسان ينبغي أن يكون هو تحقيق الذات من خلال الإشباع، حيث أوضح فرانكل في كتابه (الإنسان يبحث عن المعنى) أن السعي المستمر من أجل تحقيق الذات لا يحققها، بل على العكس من ذلك فإنه سينقلب ضدها! ويقدِّم فرانكل البديل عن ذلك بأن يسعى الإنسان نحو التسامي فوق الذات. وهذا الأمر ليس بالجديد على الإنسان المسلم، حيث إن كل مسلم يعلم أن السعي لإرضاء الله بالأعمال الصالحة وطاعته واجتناب نواهيه مقدَّم على كل شيء، بل إن المسلم في حياته كلها لا يريد إلا رضا الله ولا يعمل عملا صالحا أو عملا إنسانيا إلا من أجل أن ينال محبة الله ورضاه، ممتثلا لقول الله تعالى في الحديث القدسي: (لا يزال يتقرب العبد إليَّ بالنوافل حتَّى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به). وإن قضية الوجود ستظل تؤرِّق كل من لا يريد التسليم بوجود خالق عظيم خلق هذا الكون وكل ما فيه بنظام محكم ولغاية محددة، قال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ). ولن يجدوا ما يزيل حيرتهم ويشبع فضولهم سوى في الدين والوحي المعصوم، ومن هنا تبرز أهمية الدين كمصدر رئيسي من مصادر المعرفة، خصوصا فيما يتعلق بالفلسفة ككل وبالعلوم الإنسانية والاجتماعية والتربوية. وإنه قد يكون من المقبول ومن المعقول فصل الدين عن عالم السياسة، أما الإنسان فلا يمكن أن نفصله عن الدين! لأن الإنسان ليس جسدا ماديا فقط! وإنما هو أيضا يحوي الجانب الروحي والنفسي، فالإنسان يشعر ويتألم ويرغب ويحب ويكره ويحزن ويفرح ويتمنى... إلخ، وكل تلك المشاعر أو الرغبات لها ما يوجهها ويحددها ويفسرها ويعالجها في الأطروحة الدينية، بل إن الدين يعد ركيزة أساسية لها. وإننا عندما نقبل بفصل الدين عن الإنسان، فإننا بذلك نكون قد حكمنا عليه بالهلاك والعذاب والحيرة والضياع، وذلك ما نجد أنه قد حدث مع كل من تبنى تلك الفلسفة، فنيتشه فقد عقله في آخر حياته، وسيجموند فرويد أدمن الكوكايين للتخلص من آلامه النفسية. (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).