في عام 1898 قام إمبراطور ألمانيا بزيارة إلي أجزاء من الدولة العثمانية، أبرزها سورية، وأطلق تصريحا يتضمن "أن ال300 مليون مسلم المبعثرين على ظهر الأرض يجب أن يطمئنوا ويتأكدوا من أمر مهم جلل، وهو أن إمبراطور ألمانيا سيظل دائما وأبدا صديقهم". كلمات تحرك العواطف، ولكنها لا تعكس مقاصد الإمبراطور، فكل ما في الأمر أنه كان يتقارب مع الدولة العثمانية لصالح ألمانيا في صراعها وتنافسها مع الدول العظمي، خاصة في الظفر بعقد امتياز سكك حديد بغداد، التي كانت كل من منافسي ألمانيا، أي فرنسا وإنجلترا وروسيا يسعون للظفر بها، هذه هي الحكاية بكل بساطة، بأنك لن تجد المعني الحقيقي لكلمات الخطب أو التصريحات السياسية في قواميس اللغة وإنما في قاموس المصالح. إن هذا التنافس الناتج من تنازع المصالح بين الدول العظمي كان السبب الحقيقي في نشوب الحرب الكونية الأولى، وما كانت حادثة اغتيال ولي عهد البوسنة إلا ذريعة أو بمعني أدق حتى لو لم تقع حادثة الاغتيال فإن الحرب العالمية الأولي كانت ستقوم بلا أدنى شك تحت أي ذريعة. روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي غدت تدور في الفلك الأميركي، ولكن وفي عام 1999 تبدلت الأحوال ولم تعد فقط تعمل على إيقاف التمدد الأميركي في مجالها الحيوي، كما يذهب الخبراء الاستراتيجيون، بل إلى التأثير في المجال الحيوي الأميركي وفي مناطق نفوذه التقليدية. سورية والقرم وأوكرانيا والدرع الصاروخي ملفات شائكة في علاقات الدول العظمي، ولا يبدو أن الوجود الروسي سينتهي في سورية بمقايضة أميركا لها بشرق أوروبا، فالوجود الروسي اليوم في الشرق الأوسط منحها أكثر مما كانت تحلم به، والأميركيون سيكافحون أطول قدر ممكن للحفاظ على ما تبقى من النظام الأحادي القطبي في ظل استراتيجيتهم الجديدة للتعامل مع الأزمات والتي لا تلبي الحد الأدنى من طموح حلفائها. الصين تدخل على الخط، بأزمة بحر الصين الجنوبي والشرقي، واحتمال ظهور صراع أميركي صيني مسلح في تلك المنطقة في السنوات المقبلة، والصين عازمة على تأكيد سيادتها البحرية هناك، مهما كان الثمن، وما أبحاثها في العتاد العسكري المتقدم بِمَا في ذلك مقاتلات الشبح والغواصات والصواريخ المضادة للأقمار الصناعية وكذلك المناورات العسكرية الدورية في تلك البقعة إلا تأكيد على ذلك. القوى الناشئة كالهند والبرازيل وتركيا تريد أن يكون لها دور في النظام العالمي الجديد يلائم قوتها الحالية والمستقبلية، فمثلا تركيا اليوم ترغب في تقليل الاعتماد على القوى العظمى أو الغرب تحديدا، فهي تعمل لتسليح قدراتها الدفاعية بمنظومة دفاع جوي من خارج إطار الناتو وقد بدأت تغزو الفضاء عسكريا واقتصاديا عبر مشروعها أسطول الأقمار الصناعية التركية. ماذا يعني كل ذلك؟ يعني ببساطة أن الحروب الكونية لا علاقة لها بالفرد، بقدر ما أنها صراع دول على المصالح، وظهور الفكر القومي أو الديني المتطرف وغياب أي رغبة من القوى العظمي في كبح هذا الصراع تنحسر الخطوط الحمراء حتى تختفي إيذانا بقيام الحرب العالمية، وأنه من العجيب أن يظهر لدى جزء من الرأي العام مخاوف من قيام الحرب العالمية لمجرد وصول ترمب لسدة الحكم في أميركا، وقد نسوا أن أي رئيس أميركي ذو سلطه مقيدة لا مطلقة، وأنه لا يمكنه مثلا أن يعلن الحرب دون موافقة السلطات التشريعية، وحتى لو ذهب أحدهم في استحضار نموذج هتلر، فحتى الحرب العالمية الثانية لم تكن فردية، هتلر هو السبب ولقد أثُبت ذلك من خلال دراسة نشوء الصراع وظروفه ومعطياته، حيث لا يسع المكان هنا لسردها. على كل حال، العالم اليوم يشهد ولادة نظام عالمي جديد يكون عنوانه نظام دولي متعدد الأقطاب، فهل يحتاج تتويج ذلك إلى قيام حرب كونية؟ هذا ما يصعب التنبؤ به، ولكن من المؤكد أن ترمب لن تكون له علاقة بالأمر.