أنور بن محمد آل خليل * كمثل من يتسلق هرم بثلاثة أبعاد كل بُعد منه يحكي قصصا وروايات.. هذا ما سيكون عليه حال من يريد أن يبحث في سيرة "عبدالله بن علي بن حميد". إذ إن أوجه حياته متعددة ولكل منها جاذبية مشوقة تحكي الطموح والعصامية وقصصا من الصبر والكفاح. له وجه إداري ووجه ثقافي ووجه اجتماعي جمع بها المجد من أطرافه، فتبلورت بها شخصية معطاءة ناجحة يسكنها الصدق والحزم والحمية على كل ما يمت للوطن بصلة. إلا أن "عبدالله بن حميد" كغيره ممن ولدوا في النصف الأول من القرن الهجري الفارط "ولد عام 1326" لم تكن الحياة أمامه سهلة ولا ميسورة بل كان التعب والشقاء والعناء عنوان المرحلة.. معيشيا وتعليميا. فالمدرسة التي درس بها ما كانت إلا كتاتيب أو معلامة كما يطلق عليها في عسير، والتعليم فيها بدائي خال من المناهج المدرسية والكتب.. إلا أنه شق بعزم وإصرار طريقه إلا عالم المعرفة وتغرب لطلب العلم، حيث غادر مسقط رأسه في قرية "سبل بني مالك عسير"، بعد تلقيه مبادئ التعليم الأولى في منطقته، لينهل في الرياض من علوم الشريعة واللغة على يد مفتي المملكة الأسبق، الشيخ "محمد بن إبراهيم" وكان في ذلك خير له إذ التقى الملك المؤسس ضمن النوابغ من طلبة الشيخ، فأجزل له الملك التكريم والهبة، وعند عودته من الرياض بعد إتمام دراسته توقف مع القافلة التي سافر معها في بيشة حيث عرج الركب ومعهم "ابن حميد" للسلام على أميرها "عبدالرحمن بن ثنيان"، وتسليمه رسالة من الملك عبدالعزيز، وكان "عبدالله بن حميد"، الوحيد في القوم الذي يجيد القراءة، فكلفه الأمير بقراءة الرسالة ومن ثم الرد عليها.. ولما لمس الأمير ما في الفتى من نبوغ وذكاء، عرض عليه أن يعمل في الإمارة فوافق، وعند وفاة الأمير بعد بضعة أشهر، كلفه الملك عبدالعزيز بالقيام بأعمال الإمارة، إلى أن يتم تعيين أمير جديد لها، وكانت هذه بداية انطلاقته في العمل الإداري الممتد كما سيتبع لاحقا. حياته الثقافية على الرغم من مضي نحو أربعة عقود على رحيل "عبدالله بن حميد"، إلا أن من يقرأ مقالاته يشعر بأنها كتبت بلسان الحاضر وكأن مدادها لم يجف بعد.! طرق قلمه السيال معظم هموم مجتمعه، فتنوعت مقالاته ما بين البحث في إعجاز القران الكريم العلمي، وبين الوطن وتاريخه وقياداته، وما غاب عنه جرح العرب الغائر فلسطين.. كان يتناول هذه الموضوعات برشاقة وهدوء، ويسبر أغوار بحوثه فيأت بما يضيف للقارئ ويرتقي بوعيه! وكانت "عسير" موطنه، تتصدر اهتماماته بحثا عن جواهرها الجمالية وتاريخها التليد ومواطن سحرها السياحي، ليقدم لقارئه جرعة من بوح المحب لأرضه والعاشق لثراه.. رصد ابنه الأستاذ محمد الحميّد في كتابه "أديب من عسير" مما خط والده، مجموعة مقالات تشي بعنفوان أدب هذا العلم ورقي أسلوبه، وإن كنت أعتقد أن هناك الكثير من تراث الرجل، الذي لم ينشر بعد، خاصة أنه رجل عُرف بصداقته للقلم حيثما شرق أو غرب. وفي الشعر صاغ "عبدالله الحميد" قوافيه على إيقاع تعابير الذات ونزعاتها الإنسانية، التي تدور في فلك الأصالة وبحور التطريب المموسقة بسحر البيان. جاء عن ترجمته كشاعر في معجم البابطين ما نصه "المتاح من شعره قليل، ولكنه يدل على شاعر يحسن تهيئة نفسه للغرض الذي يهدف إليه، في شعره ملاءمة بين الغرض وموسيقا القصيدة، مع غنائية واضحة، وسيولة في ترادف الصور واهتمام بالطبيعة، وبالطبع أيضا". هم متواصل لم يتوقف عطاء "الحميّد" الثقافي عند منتجه الأدبي الخاص وحسب، بل كان مع أقرانه من أبناء الرعيل الأول يصف صفوف المثقفين للتأسيس لحراك ثقافي معرفي يُشرق به الوجه الثقافي لأبها، إذ لم يكن هناك من فعل حقيقي للثقافة إلا من خلال بعض المنتديات الخاصة، التي يجتمع فيها أصدقاء الحرف من أبناء المنطقة، لمناقشة بعض القضايا الأدبية أو العرض لكتاب أو دورية أو إحياء مسامرات ثقافية محدودة، وقد توسع الدكتور عبدالله أبوداهش في الحديث عن هذه المرحلة في كتابه نشأة الأدب السعودي المعاصر. ظلّ هذا الهم يراود "عبدالله بن حميد"، إلى أن جاءت الفرصة المناسبة بعدما أعلنت الرئاسة العامة لرعاية الشباب عن نيتها تأسيس أندية أدبية في مناطق المملكة، فحضر وحض على حضور الاجتماعات التأسيسية، التي كان يعقدها في مكتب رعاية الشباب بأبها، برئاسة الأمير خالد الفيصل أمير منطقة عسير في حينه وانتخب رئيسا لنادي أبها الأدبي في مرحلة التأسيس عام 1398. إلا أن الأجل لم يمهله ليمارس عمله فعليا، فاختير ابنه الأستاذ "محمد الحميّد" رئيسا للنادي. بين بريطانيا ولبنان سافر "الحميد" إلى عدد من الدول، من بينها بريطانيا عام 1387، ثم إلى بيروت برفقة حفيده الدكتور "عبدالله الحميد"، وفي هذه الرحلة التقى في بيروت بصديقه العلامة حمد الجاسر، وأطلعه على مطبعته هناك التي كانت تصدر منها مجلة العرب، ثم سافر إلى دمشق ليلتقي بصديقيه اللذين كانا يعملان طبيبين في أبها وهما: د.أكرم البيطار، ود.عبدالعليم الأتاسي، وقد ربطتهما بعسير صلة المصاهرة حيث تزوجا من هنا، وسافر إلى القاهرة وأيضا حرصا على لقاء صديقه أحمد البيومي، الذي عمل في أبها، وهنا تتجلى روح التواصل الاجتماعي الذي كان يعيرها الحميد مكانة عالية في حياته.
رأي الجاسر شارك "الحميّد" في أعمال مؤتمر الأدباء الأول الذي عقد في مكةالمكرمة عام 1394، ممثلا عن مثقفي عسير. تحدث عنه الشيخ حمد الجاسر فقال: "جدير بأن يُشاد بما له من علم وأدب وفضل، فهو بالنسبة لذلك الجزء الحبيب من وطننا من رواد الأدب والبحث والاهتمام بالدراسات التاريخية، بل لم أعرف من يساميه فضلا في ذلك بين أهل تلك البلاد". وترجم له صاحب كتاب "شذا العبير" الشيخ هاشم بن سعيد النعمي، ترجمة وافية وأورد فيها نماذج من شِعر، كما أبان بأنه قد صدر له قُبيل وفاته تحقيق وشرح كتاب "الدر الثمين" عن دار الفكر بدمشق عام 1398. حياته مع الإدارة كما سبق كانت انطلاقته في الحياة العملية من مدينة بيشة، حيث عمل بها وأدار إمارتها بعد وفاة أميرها، واستمرت إقامته في بيشة لنحو ست سنوات، ثم انتقل للعمل في نجران والقنفذة، حتى عين في الخمسينات رئيسا لديوان إمارة عسير في عهد أميرها الأسبق تركي السديري، ثم تقلد آخر مناصبه الإدارية رئيسا لبلدية أبها، التي كانت تتبعها في ذلك الحين عدد من مدن المنطقة وتشرف على مشاريعها، وكانت البلديات تتبع لوكالة الشؤون البلدية في وزارة الداخلية. سرد شكيب الأموي بعض مشاريع ومنجزات البلدية في عهد "ابن حميد"، وذلك عام 1381، جاء فيه "بناء دار للبلدية، وإنشاء حديقة عامة، وتشجير الشوارع، ورصف بعضها، وإضاءة البلدة بالكهرباء، وهي المرة الأولى التي تضاء فيه أبها بالكهرباء - وكانت أول محطة توليد للكهرباء في عهد "الحميد"، إنشاء جسرين، الأول على وادي الخشع، والثاني على وادي أبها، وإنشاء سلخانة على الطراز الحديث، وأخيرا إنشاء سد وادي أبها "تجدر الإشارة إلى أن السد المعني هنا ليس السد القائم الآن". سمعت أكثر من شخص في أبها يشيدون بقدراته الإدارية الفائقة، التي كان يتحلى بها "ابن حميد"، إبان رئاسته لبلدية أبها، حيث كان يتمتع بطول البال، وسعة الصدر، ولديه قدرات على امتصاص غضب المراجعين وانفعالاتهم، لعلمه أنهم أصحاب حاجة ماسة لخدمات البلدية، التي قد تقصر إمكاناتها في بعض الأحيان، عن تلبية كل متطلباتهم واحتياجاتهم.. فكان يأخذ كل ذلك بابتسامة وهدوء أعصاب وتعامل راق، ويعالج القضايا بروح المحبة والإقناع والتفاهم، وهي خصال لا تتوفر إلا في من أوتي الحكمة. *باحث في التراث الرحيل كانت وفاته - رحمه الله - في العاشر من شهر صفر عام 1399، صدر بعد وفاته كتاب "أديب من عسير" عام 1400، من إعداد ابنه "محمد الحميد"، جمع فيه نماذج من نثره وشعره. كما صدر للدكتور صالح بن عون الغامدي دراسة أخرى بعنوان "علم من عسير" عام 1419. أبّنه الراحل عبدالله بن خميس فقال، "وإنه لنعم الرجل أديبا ألمعيا لماحا، أعطى فأجاد.. ومثل الثقافة الإسلامية العربية أصدق تمثل، وأنه لنعم الرجل صديقا وفيا...".