على مساحة كبيرة من الأرض المنبسطة التي تحيط بها مجموعة من التلال والجبال الشامخة بنيت بيوت طينية صديقة للبيئة، متعددة الأدوار، منتشرة على شكل مجموعات متباعدة من المساكن يجملها صخور خفيفة ملساء رفيعة غرست في جسم تلك البيوت التي تسمى (الرَقَف) متراصة تشكل خطوطا حول تلك المساكن متكررة من أعلى البيت حتى قريبا من أسفله، وسبب (الرقف) هو لحماية البيوت من غزارة الأمطار التي قد تضر الطين، ولتلك المنازل نوافذ صغيرة تسمى (كُتر) يطوقها الجص الأبيض، وأمام بعض البيوت بستان يسمى (الحَبَل) يزرع به بعض أشجار الفاكهة وشيء من الخضار والأعلاف والذرة، وترى الجبال من بعيد كأنها حرس عمالقة يطمئنون على أمن وسلامة تلك البيوت الحالمة، وينحدر من سلسلة جبال تهلل الشامخة التي تطل على تلكم المنازل من الجهة الغربية جدول طويل من الماء الرقراق المتدفق يسمى (كضامة)، بني بشكل جميل من الحجارة ويسيل بسرعة ليطفئ عطش مزرعة كبيرة تسمى (الطبجية) التي تقع في جانب ساحة كبيرة يطلق عليها (البحار) يزرع بها مجموعة كبيرة من أشجار الفاكهة والخضار والنباتات المتنوعة والرياحين والزهور والأعلاف، كما توجد (كضامة أخرى) منخفضة تسقي المزارع الصغيرة في الأراضي المنبسطة وتستفيد منها بعض المنازل القريبة من الكضامة، وَحَبا الله تعالى سكان تلكم البيوت الطيبة بالغيث الذي لا يكاد ينقطع، وإن توقف برهة أقبل الضباب يبلل الأشجار والمزروعات فينعشها فتظل خضراء يانعة، وما أجمل المزن الثقال التي تتكون فوق البحر الأحمر ثم لا تلبث أن تتسلق جبال تهلل لِتُطل على البيوت وما حولها من مساحات خضراء وتلال مُشجرة، ثم يبدأ هطول الأمطار، فتسمع هزيم الرعود وترى لمعان البروق، وبسبب الأمطار المستمرة أغلب الأوقات جرت الجداول والشعبان فكونت سيلاً فحلاً يكاد يكون نهراً يجري من الغرب إلى الشرق، فيحمل الحياة والخصب للحقول التي تجاوره، ويغدق من مياهه البحيرات التي تفرعت منه ويملأ الآبار التي غارت مياهها، فيسعد أهل القرى المزارعون بهذه المياه الغزيرة وما تحمله من طَمْي لمزارعهم، كل تلكم النِعَم أدت إلى أن يعيش سكان تلك الديار حياة هانئة سعيدة انعكست على وجوه سكانها فارتفع مستوى جمالهم، وهم حريصون على التعاون فيما بينهم، خاصة عندما يزرعون ويحصدون، ويكفتون البر ليس بينهم واشٍ أو حاسد، يُحيون أعيادهم ومناسباتهم ويرتدون أحلى ما عندهم من الأردان والزينة، فترى الرجال والشباب يتجملون بوضع (المصنف) فوق أكتافهم ويتحزمون بالجنابي والخناجر ويثبتون (المِشقر) في العمة أو العقال، وهو (قليل من أغصان الريحان للزينة)، والفتيات والسيدات يتزين بالرشرش والحزام، ويخضبن أيديهن بالحناء ويضعن على رؤوسهن (المكعس)، وهو شبيه بالمشقر، ولا يستغنين عن الحلقان والأساور التي كلما تحركت أيديهن سمعت صوتا أشبه ما يكون بالرنين الموسيقي، ويتجمع الناس في الأعياد والأفراح ليتزاورون ويتناولون ما تيسر من الأطعمة الشعبية المعروفة، وترى على قسمات وجوههم الفرح والسرور، وغالبا وخاصة في الأفراح والمناسبات ما تقوم مجموعة من الرجال بترديد نشيد أو أبيات شعرية تعرف ب(الصوت) يثنون على المضيف ويحمدون الله تعالى ويدعون للحاكم، وعادة ما يرد المضيف على المجموعة بالترحاب والشكر، ومن المشرف في هذه البيئة الفطرية الطيبة الحرص على العقيدة والأمانة والعفة والشجاعة، يحاربون كل من يسول له الشيطان السوء، ومن الجميل اعتماد السكان على أنفسهم إلى حد كبير فيما يتعلق بأكلهم وشربهم وسكنهم وما يحتاجون من الأدوات في مجال الزراعة والبناء والتجارة والصناعة، وحتى السلاح الأبيض يصنعونه، كما يهتمون بالمساجد وتلاوة القرآن والسنة وإيجاد الكتاتيب والتعليم الابتدائي. في هذه البيوت الكريمة وبهذه القيم والخلق الحسن نشأت وترعرعت قبل ما يقارب السبعين عاما في هذه البيئة، وتمتعت بجمالها وطيب هوائها وخلق أهلها ولذة ثمارها وطعامها، حتى تركت في ذاكرتي أحلى وأطيب الذكريات، مما جعلني أحرص على التردد عليها والاتصال بزملائي وأقاربي فيها، وما زلت أذكر أنه طالما سبحنا مع الزملاء في آبارها وبحيراتها التي تتفرع من الوادي الكبير، وكم شربنا وتوضأنا من (الكضامة) ثم صلينا بجوارها، وكم تسلقنا جبالها وتلالها وسرنا في مرابعها وسعدنا بأمطارها وضبابها، ورددنا الأناشيد وشاركنا في الألعاب والعرضات الشعبية، وسعدنا بلياليها، تلك الليالي الساحرة، فلن أنسى روعة قمرها وهو يطل علينا ويرتفع رويداً بين الجبال لنرى سناه الفضي يحرك فينا الفكر والخيال، وطالما انتظرنا القمر وهو يختفي وراء السحب ليلاً ثم يعود للظهور ثانية كأنه يحتجب حتى يستعد ليبدو لنا أكثر تألقاً وجمالاً، حتى أدركنا أن أبها هي جارة القمر الأخرى، وليست جارة الوادي الكبير فقط. والملفت للانتباه تميز أبها بموقعها الجغرافي الفريد لوجود مجموعة من الجبال حولها لحمايتها، ووجود أرض منبسطة تصلح للسكن والزراعة، وهي على ضفاف واد طويل يتغذى من جبال شامخة بالمياه ويجاورها عدد كبير من القرى التي تمدها بكثير مما تحتاجه من الثمار والأرزاق، لذا كانت حاضرة مثالية لعسير. هكذا كانت أبها البهية وما جاورها من القرى قبل 7 عقود، ورغم ما بلغته من الجمال والأناقة والمكان والمكانة لكنها كانت في حاجة للمعاهد العلمية والفنية والتعليم العالي الذي لم يكن ذلك في مقدور من حكموا عسير من الدول المتتابعة بسبب ضعف التنمية والاقتصاد الزراعي المحدود، حتى أقبل العهد السعودي الزاهر وبدأ الاهتمام بالتعليم والصحة والاقتصاد والعمران لجميع مناطق المملكة ومنها عسير، لكن الطفرة التي مرت بها المملكة وحاجة الدولة والمجتمع للمسكن المناسب والمكاتب والمتاجر كل ذلك أدى إلى انتشار المساكن والعمائر في الأراضي المنبسطة وفي صدور الجبال المطلة على أبها، فاختنقت وتوارت تلك الجبال وزال ما عليها من شجر ونبات، وأزيلت كثير من البيوت الطينية، واستخدم بعضها سكنا رخيصا للعمالة، فارتفعت درجة الحرارة وزادت نسبة العوالق الترابية في الجو، فاختفت معالم أبها الطبيعية وهويتها السياحية، فدب فيها التصحر وقل هطول الأمطار، وعانى وادي أبها العريق من التلوث الذي كان يحمل اسم (خَبيب) قديما، ويعني سرعة الجريان، وسمي الوادي الكبير وغالباً ما يسمى الآن (وادي أبها)، ومن الجدير بالذكر أن الوادي المذكور أصبح نظيفاً من التلوث بعد أن مُدت أنابيب للصرف الصحي بعيداً عن الوادي للمحافظة على نقاء مياهه، وكلي أمل أن يُعاد اسمه القديم (خَبيب) إحياء لهذا الاسم النادر التاريخي الجميل وما يحمله من معنى، وكان الأجدر أن تترك أبها على طبيعتها الأولى، وتبنى مدينة أبها الجديدة في منطقة مناسبة بما يناسب العصر الحديث، لكن ما يجب أن نعمله الآن؛ أن نرمم ما بقي من البيوت الطينية وتفرغ البيوت المسكونة الطينية وتستخدم هذه المباني التراثية لأغراض السياحة، وأن يتم إلزام سكان أبها بمساعدة الدولة والقطاع الخاص ومحبي أبها بزراعة شجرة على الأقل في كل بيت أو بقربه لتزيد الرقعة الخضراء بين المنازل، وأن تتم إزالة ما أمكن من المباني التي تشوه جمال أبها أو تعيق حركة المرور، وأن يزداد عدد المتنزهات الخضراء وتترك كثير من الأراضي البيضاء خالية من الاستخدام لتنبت فيها الأشجار والنباتات وتكون رئة كبيرة لأبها. آمل أن يلقى اقتراحي هذا الاستحسان والدراسة حتى تعود أبها تدريجيا لطبيعتها الأولى ما أمكن، وتأخذ هذه المدينة مكانها اللائق بين المدن السياحية في المملكة بتوفيق الله تعالى ثم بعزيمة وإرادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله، وما ذلك على الله بعزيز.