لم تجد مهنة نسائية من الجدل والأخذ والرد في أوساط المجتمع السعودي مثلما وجدت وظيفة "الكاشيرات" في الأسواق والمراكز التجارية الكبرى في أوساط المجتمع السعودي. حبرت الصحف اليومية صفحات يومية لمناقشة هذه الظاهرة "المدنية" في المجتمع المحافظ. وخصص التلفزيون ووكالات الأنباء مساحات وافرة لمناقشة الأمر. منابر الجمعة، والندوات الدينية رفعت رايات التحذير، ووضعت الخطوط الحمراء منعا لأي محاولة للاختلاط وما يجره من خطر على الأمن الاجتماعي. وحدهن الفتيات اللاتي عملن في المهنة "الجديدة" كن يدفعن الثمن في صمت مؤلم. فهن يشعرن بأنهن وقعن ضحية بين سندان مجتمع يرفض الأفكار الجديدة، وبين مطرقة البطالة والمصير المؤكد الذي ينتظر الخريجات كل عام. ووضعن أمام الأمر الواقع: فرصة عمل محفوفة بنقد حاد، أو انتظار قطار التعيين في محطات الجوع والعطش. "الوطن" فتحت الملف، وناقشت مجموعة من الفتيات والسيدات اللاتي يحملن مؤهلات تعليمية عالية، وسر قبولهن بوظيفة بسيطة، وذات مردود مادي متواضع. حملنا الأسئلة، وزرنا عددا من المراكز والمحلات التجارية وكشفت الإجابات عن حقائق جديدة في سوق العمل بالسعودية، وصورة مقربة بلسان صاحبات القضية، وأولياء أمورهن، إلى جانب أرباب العمل، والخبراء المختصين لوضع إطار عام على تفاصيل القضية التي تشغل الرأي العام. مشرفة بدرجة الماجستير عالية القرني، سيدة سعودية تحمل درجة الماجستير في التغذية من جامعة الملك عبدالعزيز تقول: إنها بعد تخرجها في الجامعة لم تجد فرصة عمل، وخشيت يفوتها قطار التعيين في الوظائف الحكومية، وقررت أن تواصل تعليمها والحصول على درجة الماجستير، علّ جهدها في الترقي العلمي يشفع لها في الحصول على وظيفة مناسبة. تقول بنبرة من الألم: "هاجس مخيف أن تنتظر الخريجة وظيفة لا تأتي. تماما كالشعور الذي يصيب الفتاة عندما تصاب باليأس خوفا من أن يسبقها قطار الزواج". وزادت: "لا تسألوني لماذا قبلت بهذه الوظيفة. اسألوا وزارة التربية والتعليم لماذا انتظرت سنوات بلا عمل". عالية، تسكن في أحد أحياء جنوبجدة. وجدت نفسها بلا حول ولا قوة بعد وفاة والدها. ظلت تفكر في وسيلة ما لمساعدة أسرتها، وتبحث عن أي عمل لكي تساهم بما تستطيع مع إخوتها في الوفاء بالتزامات أسرتها الحياتية تقول: "وجدت فرصة عمل في محل نسائي مغلق بأحد المراكز التجارية الكبرى في جنوبجدة. ورغم ضآلة الراتب وهو لا يتجاوز (2300 ريال وطول ساعات العمل اليومي على فترتين صباحية ومسائية بواقع تسع ساعات يوميا إلا أنني وجدت نفسي مضطرة للقبول بهذه الفرصة المتاحة". وتضيف عالية: "مؤهل الماجستير، لم يحملني لشاطئ الأمان الوظيفي الذي أستحقه. أنا الآن مشرفة على عدد من الكاشيرات في المحل النسائي، وجميعهن لا يحملن سوى شهادات المرحلة الثانوية. الأكيد أن كثيرات مثلي، ولكن لا أحد يعرف عنهن أي شيء. ابحثوا عن المسؤول؟!". القطاع الخاص ذكي ومستغل! لمياء الحاصلة على إجازة جامعية في أدب اللغة الإنجليزية تؤكد أن عدم توفر الفرص الوظيفية الآمنة في القطاع الحكومي هو المحرك والدافع الرئيسي لقبول خريجات الجامعة بهذه الوظيفة. وتضيف: "العمل في المجال التعليمي الحكومي أصبح من المستحيلات. جميع الخريجات يواجهن صعوبات وشروط تعيق تحقيق أحلامهن في الحصول على وظيفة. ولو اطلع المجتمع على المتطلبات العديدة التي تضعها وزارة التربية والتعليم لتعيين الفتاة الجامعية في سلك التعليم لوجدها شروطا تتسم بالتعقيدات غير المبررة". وتنتقد لمياء أيضا القطاع الخاص، من حيث إنه يوفر فرصا وظيفية ربما تكون مناسبة لحاملات المؤهلات البسيطة، لكنه لا يوفر وظائف تناسب مؤهلات خريجات الجامعات. الأمر الذي يدفعنا إلى التقدم لها والقبول بالمرتبات والمردود المادي الذي لا يتوافق مع خبراتنا العلمية. وهي تؤكد أن القطاع الخاص ربما يستفيد من هذا الخلل، ويقوم بتوفير فرص عمل بسيطة وبأجر بسيط ليستفيد من إقبال طالبات العمل من الجامعيات العاطلات لشغل هذه الوظائف ذات الرواتب البسيطة بكوادر نسائية ذات تعليم عال، ويستفيد من جهدهن وخبراتهن لزيادة الإنتاجية بأقل مردود مالي. عهود عادل فتاة سعودية تحمل درجة البكالوريوس تخصص آداب تتفق مع رؤية زميلتها لمياء، وتضيف: أنها أمضت سنوات في انتظار فرصة عمل في القطاع الحكومي، وعندما عرض عليها العمل ك(كاشيرة) قدرت أنها فرصة عمل متاحة، وتجربة جديدة لم يخطر ببالها يوما أن تعمل بهذه المهنة. وكانت تخشى معارضة أسرتها لهذا العمل، وهو ما حدث بالفعل. تفهم أسرة عهود وحرصهم على التأكد من طبيعة مناخ العمل سهلا مهمتها كثيرا، وفازت أخيرا بالوظيفة!. وتضيف عهود: "اعترضت عائلتي على الانخراط في هذه المهنة كونها ربما تعرضني لمضايقات من قبل الزبائن، لكن بعد زيارتهم لمقر عملي، وتأكدهم من توفر الأجواء المناسبة عبروا عن رضاهم وشجعوني على خوض التجربة". أم الأيتام تكشف الحقيقة! سلوى محمد سيدة سعودية تحمل شهادة جامعية تعمل كاشيرة في أحد المراكز التجارية بمدينة جدة تكشف قصتها عن معاناة إنسانية حقيقية، وعن واقع مؤسف للآلاف من الخريجات الجامعيات العاطلات عن العمل في السعودية، اللاتي يعانين بصمت، ومن دون أن يدري أحد كيف يواجهن حياتهن بمفردهن بعيدا عن عيون وزارات الخدمة المدنية، والعمل، ومؤسسات القطاع الخاص. سلوى فاض بها الكيل عندما طلبنا رأيها حول طبيعة عملها الجديد، ومدى تقبل المجتمع هذه المهنة الجديدة للمرأة السعودية. وقالت بوضوح: "نعم نعاني في صمت من مضايقات بعض الشباب الرافضين لفكرة عملنا، ومن الذين لا يقدرون عمل المرأة السعودية في هذا المجال الجديد". مضيفة: "هم لا يعرفون ظروفنا، وعدم تقديرهم يصعب حياتنا، نحن لم نختر هذا العمل، لكن حاجتنا للعمل والشعور باستقلالنا المادي، وعدم توفرالبديل أجبرتنا على ذلك". سلوى، أرملة وتحمل مسؤولية إعالة ثلاثة أطفال منذ وفاة زوجها، أمضت سبعة أعوام من تخرجها في انتظار التعيين على وظيفة حكومية تتمكن من خلالها من الوفاء بمستلزمات أسرتها الصغيرة. تقول: "قبلت العمل بهذه الوظيفة لأنني لم أجد فرصة عمل غيرها منذ سبعة أعوام. الله يعلم كيف كان وضعي المادي مع أطفالي الأيتام. ولولا احتياجاتهم اليومية المتزايدة لما قبلت بهذا العمل الذي أتعرض فيه يوميا لمضايقات، لكن حاجتي للمردود المالي القليل الذي أتقاضاه من هذه الوظيفة هو سبب قبولي لها. صحيح أنه لا يلبي جميع متطلبات أطفالي الثلاثة، لكن لم أجد فرصة عمل مناسبة في أي مجال آخر".