منذ الاحتلال الأميركي لبغداد عام 2003، احتل العراق مراتب متقدمة في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم، نتيجة سيطرة أحزاب طائفية مرتبطة بإيران، وفرض نفوذها على الحكومات المتعاقبة بعد نظام صدام حسين. ورغم وجود جهات رقابية ممثلة بهيئة النزاهة المستقلة، ولجنة برلمانية تحمل الاسم نفسه، وديوان للرقابة المالية، ظل الفساد المالي والإداري مظهرا بارزا في المشهد العراقي، لأسباب تتعلق بتعطيل دور البرلمان الرقابي، وهيمنة الأحزاب المتنفذة، التي تمتلك ميليشيات مسلحة، على السلطة القضائية، فضلا عن تعطيلها الإجراءات القانونية ضد المتورطين بملفات فساد. وعلى سبيل المثال استطاع نجل رئيس الحكومة السابقة نوري المالكي، أحمد، جمع ثروة طائلة بحسب لجنة النزاهة النيابية، وأقام مشاريع تجارية في كندا وبيروت وغيرهما، بينما وُجهت لمعظم المسؤولين في البلاد اتهامات بسرقة مبالغ من المال العام، نقلوها إلى بنوك خارجية بعد تسجيلها بأسماء أبنائهم وفقا لاعترافات الحوزة الدينية في محافظة النجف. وبينما أعلنت هيئة النزاهة واللجنة البرلمانية المختصة بملاحقة المفسدين تشكيل لجان لمتابعة مخالفات بيع عقارات الدولة والمناصب الحكومية، فإن تكوين اللجان ليس بالأمر السهل في العراق، إذ إنها ستضم ممثلي الكتل النيابية الحالية، وهي ليست بريئة من التورط بملفات فساد، وفقا لمصادر مطلعة. ويتوقع مراقبون أن ينتهي أمر لجان ملاحقة الفاسدين، إلى ما اعتاده العراقيون من اللجوء للمحسوبية وإغلاق الملف أو تسجيل الاتهام ضد مجهول أو مسؤول صغير يكون ضحية لصفقات الكبار. 1-تداعيات خطيرة وصل الفساد في العراق إلى مستويات مخيفة أدت إلى تردي الوضع الاقتصادي، وانعدام الخدمات العامة، وانتشار الأوبئة الخطيرة، والدعارة والمخدرات، وعمليات التزوير لنهب المال العام، وتفشي الرشوة، وتراجع مستوى التعليم. وفي السنوات الماضية، امتلك مسؤولون وأعضاء في مجلس النواب منازل في حي التشريع بالمنطقة الخضراء مقابل دفع أسعار متدنية، وبموجب تسهيلات حكومية، بينما سيطرت الأحزاب المتنفذة، بخارج المنطقة، على أحياء بكاملها في بغداد، فضلا عن أبنية كانت تشغلها أجهزة النظام السابق. وتحتفظ سجلات أمانة بغداد، ودوائر التسجيل العقاري، بقرارات حكومية، صدرت في سنوات سابقة، تقضي بمنح شخصيات مقربة من المالكي، أراضي في منطقة الجادرية، أحد أبرز المناطق الراقية في العاصمة. 2- بيع المناصب لم يقتصر الفساد على سرقة المال العام بطرق ملتوية وبحماية المتنفذين، بل امتد إلى بيع المناصب الوزارية، ووثق تقرير مصور بثه ناشطون بعد أسبوع من اندلاع التظاهرات المطالبة بالإصلاح في يوليو الماضي، تصريحات نواب عراقيين تتهم زعماء سياسيين بالحصول على مبالغ مالية ضخمة بملايين الدولارات مقابل منح شخصيات حقائب وزارية. وأكد المتحدثون في التقرير بيع وزارات في الحكومة العراقية من دون الإشارة إلى الأسماء، كعادة البرلمانيين في إطلاق التصريحات، لكن أحدهم ذكر اسم زعيم سياسي منح حقيبة وزارية إلى نجل ممول حملته الانتخابية. 3- إمبراطورية المال طالب ناشطون معنيون بمكافحة الفساد، أكثر من مرة، بتفعيل الإجراءات القضائية ضد المتهمين، وإعلان نتائج عشرات اللجان التحقيقية التي شكلت لبيان حقيقة بيع المناصب في الحكومتين السابقة والحالية، وشددوا على أهمية فضح الأسماء والجهات المتورطة، مقللين من أهمية المراهنة على تشكيل لجان تضم ممثلين عن الكتل النيابية لكشف ملفات الفساد المالي وملاحقة المفسدين، داعين في الوقت نفسه إلى الاستعانة بجهات مستقلة ومراقبين يتابعون عمل اللجان مع تحديد سقف زمني للإنجاز. وتحتفظ لجنة النزاهة النيابية بعشرات القضايا المتعلقة بملفات فساد تدين رئيس الحكومة السابقة نوري المالكي بأنه أنشأ خلال ولايتيه المتتاليتين، إمبراطورية مالية كان يديرها مدير مكتبه المتفرغ، كاطع الركابي والذي يدعى "أبو مجاهد". وتشير مصادر مطلعة إلى أن علاقة الركابي بالمالكي تعود جذورها إلى عهد وجودهما في سورية، مضيفة أن الأول كان يعمل جزارا وبائع لحوم هناك، قبل تعيينه مديرا عاما في مكتب رئيس الوزراء من أجل إدارة صفقات وعمولات مشبوهة. 4- الوزير السارق مع وجود مكاتب المفتشين العامين في جميع الوزارات، لم تستطع الجهات المعنية، الحد من ظاهرة استشراء الفساد المالي والإداري، وتعطي قصة وزير التجارة الأسبق عبد الفلاح السوداني، وهو أيضا قيادي في حزب الدعوة الإسلامية، تعطي الشكل الأوضح لوقوف جهات سياسية متنفذة وراء بروز الظاهرة. وقال المحلل السياسي العراقي، عامر مجيد، إن الأحزاب المتنفذة وفرت الحماية للمفسدين، وعطلت الدور الرقابي لمجلس النواب، مشيرا إلى أن الكتل عرقلت طوال السنوات الماضية استجواب مسؤولين متورطين بقضايا فساد، مبينا أن ذلك أصبح ظاهرة شائعة في المشهد العراقي. وأوضح مجيد أن تسهيل هروب السوداني إلى بريطانيا بوصفه يحمل جنسيتها يكشف أن القوى المتنفذة وفرت الغطاء للمفسدين، وعطلت الإجراءات القانونية الصادرة ضدهم. وعن المشاريع المتعثرة في بلاده، لفت مجيد إلى أن بعض عمليات الفساد تتجسد في الحصول على عقود لتنفيذ مشروعات إعادة البنية التحتية، ومن ثم عدم التزام الإنجاز، بسبب عدم خضوع الجهات المنفذة للمساءلة القانونية. 5- غسيل أموال في إطار تبادل الاتهامات بين الأطراف العراقية المشاركة في الحكومة الحالية، يأخذ الحديث عن الفساد في وسائل الإعلام حيزه الأكبر، بالإشارة إلى شراء مسؤولين وسياسيين بارزين وأعضاء مجالس المحافظات عقارات في الأردن والإمارات. كما تؤكد مصادر محلية سيطرة أبناء كبار المسؤولين على أسواق الأعمال كتجارة استيراد السجائر والمواد الغذائية، موضحة أن أحدهم استغل منصب والده؛ فأسس شركة تحمل اسم " بوابة العراق"، تضم أسطولا من الطائرات الصغيرة، مخصصة لنقل الساسة والمسؤولين من بغداد إلى عواصم دول إقليمية، لم تحددها المصادر بالاسم، بينما تزود شركة ابن المسؤول الحكومي مجانا بالوقود والخدمات الأخرى من مطار بغداد. وقال الإعلامي العراقي، رعد كريم، إن الشعب العراقي بأمس الحاجة للكشف عن المفسدين، مستدركا أن أي إجراءات في هذا الصدد، يقتلها التسويف وتبادل الصفقات المشبوهة، مبديا أسفه من احتلال بلاده مرتبة متقدمة في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم. 6- عجز النزاهة تعد هيئة النزاهة الجهة المسؤولة عن مكافحة الفساد. وتشير مصادر مطلعة إلى أن مغادرة رئيسها الأول راضي الراضي البلاد متوجها إلى الولاياتالمتحدة جاءت بعد أن تلقى تهديدات من قوى متنفذة، مضيفة أن خلفه موسى فرج لم يستطع أن يستمر في منصبه شهرا واحدا، ليأتي بعده القاضي رحيم العكيلي الذي انتهى به المطاف إلى ترك بغداد والإقامة في إقليم كردستان، فرارا من مذكرة اعتقال دبّرها ضده المالكي بتهمة التستر على المفسدين. ويتولى رئاسة الهيئة حاليا، القيادي في حزب الدعوة الإسلامية، القاضي حسن الياسري، الذي عجز عن الرد على مطالبة نواب وناشطين، بالحد من عمليات تهريب مبالغ طائلة بملايين الدولارات إلى الخارج. من ناحيته، طالب عضو لجنة النزاهة النيابية في الدورة التشريعية السابقة، مستشار رئيس الجمهورية حاليا، شيروان الوئلي، بمنع المسؤولين من استغلال نفوذهم الرسمي وإمكانيات الدولة، وتسخيرها لتهريب الأموال إلى الخارج بطرق وأساليب غير قانونية تندرج أغلبها في إطار عمليات غسيل الأموال. وكشف عن قيام "البعض" بتهريب أموال الدولة إلى بنوك دول مجاورة، بكميات كبيرة، تشكل خطرا فادحا على سلامة الاقتصاد العراقي، مؤكدا أن هيئة النزاهة طالبت بالكشف عن العقارات المسجلة بأسماء السياسيين في خارج العراق وتحري كيفية شرائها أو تملكها. 7- الاعتداء على الأقليات طالب ممثلو الطائفة المسيحية في مجلس النواب العراقي، وعددهم ثلاثة، الحكومة العراقية، بمنع الميليشيات من الاستيلاء على عقارات الأقليات المنتشرة في أحياء متفرقة من العاصمة. وعلى خلفية ذلك، التقى وفد مسيحي رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي، فتعهد الأخير باتخاذ كل الإجراءات للحفاظ على العقارات، فضلا عن تسهيل عمليات بيع عقارات المسيحيين من دون الحاجة إلى حضور أصحابها من الخارج، لكن المشكلة لم تحل بعد وفقا لمصادر مطلعة. وأكد ممثل المسيحيين في مجلس النواب، عماد يوحنا، مصادرة 638 عقارا في بغداد بين منازل ومحلات تجارية، تعود ملكيتها لأبناء الطائفة، معربا عن استغرابه من سرعة انتقال بيعها بين عدة أشخاص باعتماد وثائق مزورة، مضيفا أن العبادي أسند قضية الأقلية إلى وزارة العدل بتشديد مراقبة بيع عقارات المسيحيين، مستدركا أن الظاهرة ما زالت مستمرة، معللا ذلك بأن منفذيها ذوو هيمنة على الجهات الرسمية. في السياق ذاته، يقول صاحب مكتب لبيع العقارات في منطقة الدورة يدعى أبو ياسر، إن بيع منازل المسيحيين في حي الأثوريين والغدير وبغداد الجديدة وشارع فلسطين، يتم عن طريق اعتماد أشخاص حصلوا على توكيل من أصحاب المنازل وتحويل ثمنها إلى الخارج. وأضاف: "هذا النوع من البيع عادة ما يكون بشكل أصولي، لكنه يتطلب إجراءات رسمية معقدة، يغامر في خوضها من يمتلك القدرة على تسجيل العقار باسم المشتري، ثم يهدم المنزل ليباع أرضا بالإمكان تقسيمها إلى قطع صغيرة بمساحة 75 مترا". 8- تهديد عرقي أوضح المحامي المسيحي، الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق الفريد سمعان، أن أبناء الأقلية من أصحاب المنازل المغتصبة في نينوى يطالبون بتحرير محافظتهم ليعودوا إلى مناطق سكنهم، مشيرا إلى أن له تجربة في قاعات القضاء للحفاظ على عقارات أبناء الطائفة، مبينا أن أحزابا وميليشيات خارجة عن القانون استولت على منازلهم، وتهددهم بالتطهير العرقي، مطالبا الحكومة بأن تكون جادة في إعادة العقارات إلى أصحابها". وأضاف أن الاعتداءات على ممتلكات الأقلية المسيحية "واضحة ولا تحتاج إلى أدلة"، داعيا الجهات المشكّكة إلى زيارة أحياء الطائفة في العاصمة بغداد، للوقوف على كارثة يعود تاريخها إلى ما بعد عام 2003، مشيرا إلى أن الانتهاكات تتجسد في استخدام نفوذ جهات حزبية لإجبار أصحاب منازل على بيعها في منطقة الكرادة والجادرية، تحت التهديد بالتعرض للمساءلة والعدالة، وتوجيه تهم في مقدمتها الارتباط بجماعات إرهابية. 9-اللصوص الكبار أكد الخبير القانوني، طارق حرب، أن الجهاز التنفيذي يحتاج إلى إصلاح جذري لمنع التجاوزات على حقوق الآخرين، مبينا أن القانون العراقي كفل حماية الملكية الشخصية، وفي حال حصول تجاوز فإنه بإمكان المتضرر أن يقدم شكوى، سواء كان داخل البلد أو خارجه. وأوضح أن استشراء الفساد في بعض الدوائر الرسمية، لا يعني اغتصاب حقوق الآخرين مهما كانت الأسباب، منبها إلى أن دائرة التسجيل العقاري التابعة لوزارة العدل هي الجهة الرسمية الوحيدة ذات الصلاحية في تسجيل العقار باسم المشتري طبقا لضوابط من أهمها حضور البائع أو وكيله، لافتا إلى أنه بخلاف ذلك لا تنتقل ملكية العقار إلا بالتزوير، مؤكدا أن ذلك التصرف مخالفة قانونية صريحة. 10- مقترحات عملية طرح الأكاديمي مجيد القيسي، حلولا افتراضية لمكافحة الفساد في العراق، وقال عبر مقال نشره في مدونته، إن وجود الأحزاب الطائفية في السلطة، يفرض على المرجعيات الدينية تطبيق الحدود الشرعية ضد المفسدين ومن يعاونهم أو يتستر عليهم أو يسكت على أفعالهم، ومن ثم مطالبتهم بترك الحكم، أحزابا ومؤسسات وأفرادا، وذلك لتجنيب البلاد المزيد من الويلات والخراب، واصفا مقترحه بخطوة أولى للتصالح مع عقيدتهم وضمائرهم وشعبهم، على أن يتم استبدالهم بعناصر شريفة من الأكاديميين والخبراء والمختصين لبناء الدولة العصرية الديمقراطية التعددية التي تحتكم إلى القانون ويحميها جيش مهني قوي وشريف. واقترح القيسي حلا بديلا في حال عدم تجاوب الكتل المتنفذة، وهو خروج الشعب بجميع أطيافه، تحت شعار واحد هو "من أجل عراق مستقل ديمقراطي موحد"، بانتفاضة سلمية عارمة تشمل المحافظات كافة. 11- انتفاضة شعبية يرى رئيس النزاهة الأسبق، المبعد من منصبه بقرار من المالكي، القاضي عبد الرحيم العكيلي أن اندلاع التظاهرات وتنظيم الاعتصام أمام المنطقة الخضراء يعد الخطة الأولى باتجاه محاربة الفساد بجميع أشكاله. وقال العكيلي إن موقف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر لم يكن إلا انحيازا للشعب الذي نُهبت ثرواته وأُهدرت دماء أبنائه وهدم نسيجه الوطني وسلمه الاجتماعي، مشيرا إلى أن الموقف يحمل بوادر تصحيح انحراف النظام السياسي الحالي في العراق. وأشار إلى أن أتباع الصدر يمثلون أكثر طبقات المجتمع تضررا وفقرا، واصفا إياهم بقوة ثورية عظيمة هزت عروش الانحراف والجريمة، مستدركا أن التيار المدني الذي تبنى تنظيم التظاهرات الاحتجاجية منذ يوليو الماضي لا يملك القوة الكافية لتغيير أو إصلاح نظام سلطوي مجرم، حصّن نفسه بأموال الفساد، في إشارة إلى حكومة العبادي.