فهد المرسال ماذا لو انتهت كل مشاكلنا، وأصبح العالم بلا حروب ولا كوارث وضغائن وأحقاد وتعصّب، وعمّ السلام والحب والوئام والإيثار أرجاء هذه المعمورة العظيمة، ماذا سيجري! لنتضامن مع هذا التساؤل الكبير، ونشعل فتيل الأخيلة، ونمتطي صهوة المثالية باحثين متسائلين، الصحُف بماذا ستعنون موادها اليومية المثيرة، كتاب الرأي ماذا سيجدون لمناقشته وطرحه، السياسة ستلفظ أنفاسها وتودّع مؤتمراتها الصحفيّة الرنّانة، فلا سياسة بلا حروب ومصالح ونزاعات، كرة القدم رياضتنا الأكثر شعبيّة ستذبل هي الأخرى إن نُزع منها فتيل التعصّب، وستصبحُ بلا طعم كأن تقام مباراة ديربي لأكبر أندية الوطن جماهيرية، وبعد انتهاء المباراة يقف المشجع المنتصر مبتسما يحتضن مشجع الفريق الخاسر، ويقول له: كان فريقك أفضل، وأبلى بلاء حسناً، لكنه لم يوفق! سائق التاكسي بماذا سيتحدث حينما يسود العالم السلام، هو أيضاً سيلجأ إلى صمته، فأحاديث السياسة جزء لا ينفكّ من يومياته وأوقاته، الحلاّق وحكاياته ومغامراته والمقاهي ومرتادوها وسجالاتها الصاخبة في كل الشؤون ومشراق الصباح لكبار السنّ وكل تفاصيلنا ستفقد شيئاً من متعتها، قف من فضلك أيها الخيال وأنزلني بحضرة الواقع، فالسرّ في وجودنا يكمن بانشغالنا وركضنا خلف أحلامنا ومعالجة مشاكل أيامنا وعثراتها، الأصوات المتشائمة الصادحة بين فينة وأخرى عن واقع حالنا يجب أن تعيد النظر للحياة من أعلى بجزئها الإنساني، فالمصاعب والمعضلات لون لا تكتمل صورة الحياة إلا بها، الكمال المنشود قد لا يكون بالضرورة مبهجاً وساحراً، فأعلى مراتب الجنّة منزلة للشهداء، هل من العقل أن نطالب الأحياء بأن يسارعوا إلى طلب الشهادة! البحث عن الكمال مثالية، وللمتشائمين المذعورين من المستقبل يقول نجيب محفوظ "الخوف لا يمنع من الموت، ولكنه يمنع من الحياة".